أضواء على جوانب من تخلفنا: أصل ثقافة الإجماع في النسق السياسي المغربي
إبراهيم المراكشي
إن السؤال الشائك العريض العويص، الذي يجمع بين ثناياه ويلخص جميع مشاكل المغرب، هو: لماذا تخلفنا؟ أو بصيغة أخرى: ما هي أسباب تأخرنا؟
في الواقع، لا يمكن حصر تخلف المغرب في سبب واحد وجانب واحد يتيم منه، بل للتخلف أسباب متعددة وجوانب مختلفة دستورية منها وسياسية ودينية وحضارية وثقافية واقتصادية واجتماعية، وغيرها… كنا قد استعرضنا البعض من هذه الجوانب في مقالات سابقة. واليوم عبر هذه المحاولة سنستعرض سببا آخر، قد يظن البعض أنه تافه، غير ذي شأن، صغيرا كصغر كلمة “الإجماع”؛ غير أن وقعه على النسق السياسي وتأثيره كان سلبيينبشكل كبير. يتعلق الأمر بثقافة الإجماع.
إن ثقافة الإجماع في دلالاتها ترمز من ببن ما ترمز إليه: الكلمة الواحدة والصوت الواحد، أو وحدة الصف وعدم وجود أي صوت معارض… وإذا كانت هذه الخصائص مطلوبة في بعض المجالات ويسعى الطراف إليها لتحصين المجتمع في فترات الأزمات، فإنها لا تصلح أبدا لاشتغال الأنساق السياسية، التي يفترض فيها التعددية واختلاف الرؤى ووجهات النظر، والأهم من ذلك القدرة على أخذ المبادرة.
وإذا كانت للتنمية رجالاتها ونخبتها المتصفة بالوطنية والكفاءة، فإن للمغرب نسق سياسي عصارته ضيقة تضيق الخناق على عملية إنتاج وإبراز المواهب الحقة والكفاءات، بعيدا عن منطق الولاءات. لهذا نعتقد حتى ولو وضع المغرب أفضل المخططات التنموية بدون نخبة واعية بحتمية تنمية البلاد، فلن يتمكن من الخروج من دائرة التخلف، ومادام أيضا نسقه السياسي مأزوم يعاني من الجمود، ليس فيه تفاعل إيجابي وبناء بين أطرافه.
من أين استقى الفاعلين السياسيين ثقافة الإجماع؟ وكيف تحولت هذه الأخيرة إلى عنصر معيق ساهم في تصلب شرايين النسق السياسي المغربي، وإصابته بالتجلط؟
من المعلوم أن أي جمود يصيب النسق السياسي ما هو سوى نتيجة لجمود “لاعبيه” الأساسيين. في المغرب نجد هذا الجمود يقابله ديناميكية المؤسسة الملكية ومحوريتها البارزتين على المشهد السياسي.
إن تخلف المغرب السياسي، في هذا الجانب، يعود إلى احتماء الفاعلين السياسيين، -ونقصد تحديدا أولئك الذين يشتغلون داخل النسق السياسي الرسمي-، بثقافة الاجماع لتغطية فقرهم السياسي، وعجزهم على تقديمالحلول المبتكرة لمشاكل المغرب. الحقيقة هي أن جل هؤلاء الفاعلين فقدوا روح المبادرة، حتى صاروا على نسخة كربونية واحدة، لهم نفس الخطاب بوعاء إيديولوجي يبدوا ظاهريا أنه مختلف، لكنه في العمق على لحن واحد ممل، وهو سبب من أسباب ظاهرة العزوف السياسي.
من درجة البؤس السياسي أن نجد جل هؤلاء الفاعلين ينتظر المبادرات الملكية ليدور في فلكها ويظل على هامشها يتغذى عليها سياسيا ويقتات منها إعلاميا. وكأن هذه الأطراف لا عقول راجحة لها تفكر وتنظر، مع استثناءات محدودة. لقد قتلت الإبداع في صفوف قواعدها، وهجنت صوت شبيبتها. هذه الأطراف هي نفسها التي وظفت ثقافة الاجماع لإسكات أصوات المعارضة الداخلية، وطرد بعض عناصرها المشاكسة تنظيميا، أو على الأقل التليين من حدة نبرتها. كما استغلت ثقافة الإجماع لخلق إجماع صوري حول كارزمية الزعيم، والنفخ في بطولاته المجيدة وتضحياته الجسيمة. وقد استوت في هذه التصرفات جل الأحزاب السياسية وجميع النقابات. إن أردنا الاسترسال في وصف هذه المظاهر والتجليات فلن يسعنا هذا المقال المتواضع.
مشكلة النسق السياسي المغربي، وبالمناسبة مشاكلهعديدة ليست على ملة واحدة، هي فشله في تدبير الاختلاف بين عناصره وأطرافه الفاعلة فيه. علما أن كل نسق سليم يتغذى من خلال تفاعل وتلاقح بين مختلف مكوناته المتباينة إيديولوجيا والمختلفة فكريا. مما لا شك فيه، أن حسن تدبير هذا التباين والاختلاف لهو دليل على مناعة النسق وديمقراطيته، والعكس صحيح. إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه النقطة الأخيرة سينجلي لنا الوجه غير الديمقراطي لنسقنا السياسي، أو لنقل بصيغة محافظة، أنه مازال بصدد البحث عن وصفته الخاصة بالديمقراطية، ولم يستقر بعد على وصفة محددة.
من أبرز تجليات تخلف المغرب أن نجده بعد مرور عدة عقود على استقلاله، أو على “احتقلاله” بصيغة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، مازال يبحث عن وصفات طبية لمعالجة أسقامه. فهو لحد الآن يبحث عن نموذجه التنموي الخاص به في كافة المجالات.
في هذا الإطار، وفي الوقت الذي نجد أمما كانت أقل منا أو في مستوانا، ككوريا الجنوبية أو تركيا، قد سبقتنا بأشواط في مجال التنمية البشرية، ودول إلى عهد قريب كانت متخلفة وجد متوارية مقارنة بنا، كإثيوبيا أو أوغندا، نجد أنفسنا مازلنا ندور داخل حلقة مفرغة، نبحث عن نموذجنا التنموي الخاص بنا، وقد وضعنا لجنة خاصة بذلك. بمعنى آخر، مازلنا نبحث أجوبة لأسئلة من قبيل: لماذا فشلنا؟ وكيف سنتقدم؟ وبأية وسائل وأهداف؟
إنه البؤس بعينه. ألا يشكل هذا الأمر برمته قمة الإفلاس؟ وفعلا نحن مجتمع مفلس، ليس فقط بمفهوميه الاجتماعي أو الاقتصادي، ولكن أيضا بمفهومه النبوي. لا أدري ما الأسباب التي دفعتني لكي أستحضر هنا من السنة النبوية حديث المفلس؟
كيف ومتى نشأة ثقافة الإجماع بالمغرب؟ وكيف انسلت من تأطير النسق الاجتماعي إلى نسقه السياسي لتصيبه بأزمة عميقة في كينونته؟
إن ثقافة الإجماع برزت في المجتمع المغربي، وترسخت تدريجيا في مجتمعه القروي تحديدا، بشكل متلازم مع التطور الذي عرفته مؤسسة الجماعة.
فجوابا عن السؤال الأول، برزت الحاجة لثقافة الإجماع حينما بدأ الوهن يتسلل إلى شرايين الدولة المركزية تدريجيا، وأخذت الامبراطورية الشريفة في التقلص، تفقد أطرافها، وتتحول من موقع الهجوم إلى موقف الدفاع عن ثغورها وشواطئها.
فلم تعد السلطة المركزية بتلك القوة التي تمكنها منتجسيد مظاهرها السيادية على كامل ترابها الوطني؛ هذا الأخير الذي أخذ في التقلص منذ القرن الخامس عشر إلى أن وصلت حدود البلاد إلى ما وصلت إليه حاليا، كما هي مسطرة في أروقة منظمة الأمم المتحدة.
مظاهر تراجع سيادة السلطة المركزية تجلى من خلال ركيزتين متلازمتين: الأمن والجبايات التي تتبعها. فكان من نتائج ذلك أن ظهر مفهوم السيبة، وتفشى اليأس في المجتمع وفقد مناعته الأخلاقية، وانتشر اللصوص وقطاع الطرق يسلبون الناس أموالهم وينهبون التجار من قوافل تجارتهم. بدأ هذا المسلسل منذ أواخر العهد الوطاسي،وكلما ضعفت السلطة المركزية عموما. بينما كلما استرجعت هذه الأخيرة شيئا من عافيتها، إلا وجدت نفسها قد فقدت الكثير من ترابها التاريخي، عاجزة بالمطلق عن استعادته بشكل كامل.
أمام ضعف السلطة المركزية وعجزها عن توفير الأمنلرعاياها في مختلف ربوع البلاد، وأمام تعاظم نشاط قطاع الطرق وزيادة ونفوذهم، لدرجة أن ابتدعت السلطة المركزية لفكرة تعيين القواد من بين أبرز قطاع الطرق لاحتوائهم، أصبح المغربي يحصن نفسه من خلال ثقافة الاجماع التي تجعله هو والمجتمع المحلي عبارة عن كتلة واحدة متراصة يصعب اختراقها أو الوثب عليها. في سبيل ذلك ابتدع المغربي وابتكر مفهوم الجماعة لحماية نفسه وأسرته وقريته، وطورها إلى مؤسسات تنظيمية اختلفت تسميتها حسب مناطق البلاد.
غني عن التذكير أن مؤسسة الجماعة ساعدت “المغربي” من ضبط مجاله المحلي، وخلق قدر كبير من التنظيم بعيدا عن تحكم وسلطوية السلطة المركزية.
هكذا أصبح المغربي في البادية، والمغرب جله كان قرويا، يجد ملاذه وأمنه في جماعته، فكل فرد يستقوي ببقية أفراد قريته أو قبيلته لحماية نفسه وأسرته من “الآخر” الغريب. ففي مؤسسة الجماعة كانت تتممناقشة كل ما يهم أمور وشؤون القرية أو القبيلة، من أصغر الأمور إلى أعقدها، والقرارات لا يتم اتخاذها إلا بالتصويت. غني عن القول، أن بادية المغرب بالأمس البعيد في هذا الجانب كانت أكثر ديمقراطية من بادية اليوم. قد تختلف الآراء وتتباين وجهات النظر، لكن بمجرد ما يتخذ القرار داخل مؤسسة الجماعة، تنتفي الخلافات وتذوب، وتجمع القبيلة عن بكرة أبيها حوله.
أصبحت الجماعة في خدمة الفرد، لكن في مقابل ذلك يتعين على الفرد أن يظل في خدمتها. بل تمكن المغربي من ابتكار، من داخل مؤسسة الجماعة، آليات لتنظيم كافة مناحي حياته من زرع الأرض وتخزين المحاصيلوحمايتها، وآليات أخرى لحماية الأرامل ومساعدة العجزة، وأخرى لتنظيم المسيد وأجرة “السي الفقيه”، وغيرها… فإذا خرج الفرد عن الإجماع، ينبذ ويطرد من مؤسسةالجماعة؛ وطرده يعني بصيغة أخرى نهايته. فالأمر أشبه بعقوبة، وكأنه قد حكم عليه بالموت البطيء.
من هذا السياق تطورت ثقافة الاجماع لدى المغربي،ويمكن تلمس بقايا آثارها في المجتمع المغربي من خلال الأمثال الشعبية من قبيل: “الحمية كتغلب السبوعة” و “كثرة الضبوعة كتغلب السبوعة”، أي كثرة الضباع تنتصر في نهاية المطاف وتتفوق على الأسود، أو المثل الدارج “ما يخرج من الجماعة غير الشيطان”.
ظلت ثقافة الاجماع طيلة قرون تشكل للمغربي بديلا له عن ضعف السلطة المخزنية، وأحيانا أخرى حماية له من جبروتها واستبدادها في تحصيل الجبايات التي كانت تخضع لمزاجية خدام المخزن وأعوانه، خاصة بعد أن ضعف هذا الأخير وأصابه الوهن بشكل كبير، وتقلصت موارده الخارجية (تراجع الغنائم نتيجة فقدان تفوقه العسكري، وفقدانه للأندلس، تراجع مداخيل القرصنة البحرية، فقدانه زمام التحكم في طرق تجارة غرب إفريقيا، إلخ.)، ولم يعد للمخزن سوى المواطن المغربي، الرعية بمفهوم ذلك العصر لــ “حلبه”؛ ومازال هذا المواطن يحلب لحد الآن، ويشكل المصدر الرئيسي لخزينة الدولة.
مرت أجيال وأجيال، وانقضت السنون، انتقل خلالها المغرب من موضع إلى موضع، ومن حال إلى حال، تغيرت معها أسس الدولة المغربية، وملامح المخزن المغربي دون أن يغير في شيء من جوهره وأهدافه، في حين استمرت ثقافة الاجماع في تأطير الحياة الاجتماعية بالعالم القروي، محافظة على أصالتها، إلى حين قدوم الاستعمار الفرنسي.
المعمر الفرنسي أحدث تغييرات جوهرية في بنية المخزن المغربي بإدخاله لإدارة عصرية ونظمه القانونية الحديثة، وهذه التغييرات كانت لا تستقيم مع بقاء ثقافة الاجماع سائدة في البادية، بل وتشكل تهديدا وجوديا لبقائه إن ظل العالم القروي كتلة منسجمة وموحدة. إن سبب صمود وبسالة المقاومة المغربية في البادية يعود، في إحدى جوانبه، لثقافة الإجماع؛ فكان لا بد للاستعمار الفرنسيمن محاربة مؤسسة الجماعة، وتعويضها بحكم القياد والباشوات، الذين منحوا صلاحيات واسعة ومستبدة لردعالعالم القروي، وللقضاء على أية احتمالية لعودته لرفع البندقية في وجهه. وهذا ما يفسر لنا سبب انتقال المقاومة، في محطة ثانية، من القرية إلى المدينة.
أضعفت الجماعة، مؤسسة وثقافة، في المجال القرويخلال فترة الاستعمار الفرنسي. بعد استقلال البلاد لم تختفي القلاقل من البادية المغربية، بل تصاعدت حدتها خلال السنوات الأولى، فاستمر مسلسل الإضعاف لتعارضها مع أهداف المخزن الحديث.
بذكاء ثاقب تم هدم أسس وبنيات ثقافة الإجماع التي كانت سائدة في المجتمع القروي، وتم نقلها للنسق السياسي الفتي بالمغرب في محاولة لخلق إجماع حول المؤسسة الملكية. وهو الاجماع الذي لم يتحقق سوى بعد عقود، بشكل جزئي خلال المسيرة الخضراء، وبشكل شبه كلي بعد قبول أغلبية الجناح اليساري المعارض، بقوانين وشروط اللعبة السياسية، وقبوله المشاركة في ممارسة الوظيفة السياسية سنة 1998، بعد أن فشل في تغييرها. ومنذ تلك الفترة، وبالضبط منذ الإجماع الذي حصل أثناءالتصويت على دستور 1996، هيمنت ثقافة الإجماع على الحقل السياسي المغربي، وبات على سبيل المثال مشهدا اعتياديا يميز الحياة البرلمانية بالمغرب التصويت بالإجماع على قوانين، يفترض فيها الاختلاف في الرؤى.
من الحقل الاجتماعي انتقلت ثقافة الاجماع إلى الحقل السياسي، ووظفت بشكل أثر سلبا على آليات اشتغاله، إذ لم تسمح ببلورة تعددية حقيقية، واستقلالية في اتخاذ المبادرات.
إن الاختلاف ليس دليلا على ضعف النسق السياسي، بل دليلا على مناعة المنظومة بأكملها، بنفس القدر الذي هو حيوي لها. لذلك نعم لثقافة الاختلاف، ولا لثقافة الإجماع.
إن الفاعل السياسي الذي يلتجأ اليوم إلى ثقافة الإجماع دليل إدانة على انتهازيته السياسية، وغالبا ما يكون ذلك في إطار مصالح ذات أفق ظرفية ضيقة، تضيق بأصحابها. النزاهة السياسية والاستقامة والالتزام السياسي… كلها قيم تتعارض مع ثقافة الاجماع. لكي تقول لا في المغرب اليوم، ينبغي على الأطراف السياسية أن تكون فعلا مستقلة وعلى درجة كبيرة من النزاهة ونظافة اليد، أو بالدارجة المغربية “ما تكونش فكرشهاالعجينة”.