ردد “جورج برنارد شو” في إحدى مداخلاته يوما بأن “الإنسان-الفنان يستخدم المرآة ليرى وجهه، بينمايستخدم أعماله الفنية ليرى روحه“، وأنا أضيف بأن الفنان يستخدم أعماله الفنية كمطيّة ليكشف للناس عن دواخل روحه وعن أحاسيسه وأفكاره ونزعاته. لطالما كانت الفنون البصرية عموما والتشكيلات الصباغيةبالخصوص مرايا عاكسة لآلام وآمال الفنانين، يفصحون من خلالها -وعيا منهم أو عن غير وعي- عن مكنوناتهم وخلجات أبدانهم وما تكتنزه عقولهم من أفكارَ ناقدة للمجتمع والسلطة والدين وكل ما من شأنه أن يشكل حدثا مرئيا يستحق التأمل أو ظاهرة مجتمعية شائكة تحتمل عناء النقد والمسائلة.
من هذا المنطلق، وبمنطق التلاقي والتآزر وتوحيد الرؤىالمختلفة، التأم شملُ خمسة فنانين من خيرة الأسماء التي تطبع المشهد التشكيلي المعاصر بشمال المغرب يوم الجمعة 16 يوليوز 2021 برواق “سيلكي-آرت” بمدينة طنجة، مُعلنين لعموم المهتمين بالفن التشكيلي بالمدينة وخارجها عن ميلاد معرض جماعي خماسي تلتقي فيه الأفكار رغم اختلاف الرؤى والتقنيات وتتلاحم فيه المواقف رغم تفرُّق المواضيع والثيمات، معرضٌ قدّم الفنانون الخمسة من خلاله آخر إنتاجاتهم الإبداعية وما جادت به قريحة فُرشِهم ومٍلْوناتهم من كرم وإبداع.
يلتقي الفنانون الخمسة (أحمد بنعزوز ومصطفى بلقاضي ومحمد موح الهاشمي وعبد الرفيع الكداليوعبد السلام الخمال) في هذه المناظرة الجمالية مبرزين محاسن منجزاتهم التشكيلية التي اختمرت بعد عقود من التجربة والإبداع والعروض الفردية والجماعية، تجربةٌأقل ما يقال عنها أنها أضحت في عُهدة العالمية والريادة، كيف لا وكلهم من جيل واحد ناهز العقد السادس أو اقترب، منهم الأستاذ والمربي والمهندس والتشكيلي والمؤطر ؟ لا يستطيع تشكيلي واحد من جيلي أو الأجيال التي سبقتني أو جاءت بعدي أن يُنكر فضل أحدهم على الأقل في تكوين شخصيته الفنية والجمالية وفي صقل مواهبه وتهذيب ملكاته النقدية وتقويم اعوجاج رؤيته للمادة والأشياء والحياة عموما. أنا شخصيا تتلمذتُ على أيادي ثلاثة منهم، حيث درسني الفنان التشكيلي أحمد بنعزوز -رفقة أساتذة كبار منهم من انتقل للرفيق الأعلى مثل المرحومين عبد الباسط بن دحمان وأحمد البراق ومنهم من كان حاضرا معنا في افتتاح المعرض مثل أستاذ الأجيال عبد المجيد لعروسي أطال الله عمره- في سنوات الباكالوريا، مهْد التكوين الفني الأساس، ولم أنس يوما تدقيقاته الاحترافية معنا في دروس المنظورperspective، وعشقه للرسيمة croquis وتفانيه في التعبير التشكيلي، وحداثة فكره في دروس التصميمdesign والفنون الكرافيكية arts graphiques، أما الأستاذان الجليلان عبد الرفيع الكدالي وعبد السلام الخمال فقد علّماني في المركز التربوي الجهوي بطنجة في أواسط تسعينيات القرن الماضي أسُس التربية والتعليم الفني وطرق التدريس وبعضا من البيداغوجيا والديداكتيك، بينما الصديق العزيز الفنان محمد موح الهاشمي فقد عرفته عن قرب من خلال الاحتكاك معه في الأروقة والجلسات الفنية والنقاشات الفكرية التي كانت تجمعنا بين الحين والآخر في المقاهي والصالونات الأدبية، وأخيرا مصطفى بلقاضي الذي لم تكن ليفرصة للقاء به عن قرب، لكني أعرفه من خلال أعماله التعبيرية ومن خلال معارضه السابقة.
لا بد لنا أن نشكر صاحبة الرواق السيدة “ناهد امفرج“التي استطاعت توفير الفرصة لعقد هذه اللمة الفنية الرائعة، وأن تَجْمَع جيلا من الأساتذة الكبار الذين أفنوا حياتهم في تعليم وتلقين أبجديات الفن والنقد وقراءة وتحليل الصور ومختلف التقنيات المعاصرة، امرأة بألف رجل، مُثابرة رغم ضغوطات الحياة والمشاكل التي يعرفها السوق الفني ببلادنا في ظل ما نشهده من تدني العروض الفنية الناتج عن مضاعفات الجائحة وتنامي موجة تزوير الأعمال الفنية، ناهيك عن مُضاربات السماسرة في السوق الفنية السوداء وغيرها من الأمور التي تسيء للفن ببلادنا.
في هذا العرس الفني، يُعيد الفنان أحمد بنعزوز إنتاج لوحات قديمة تعود لعقدين من الزمن في قالب جديد،خصوصا لوحتَهُ المعنونة بموجة الظلام أو “الموجة الليليةla vague nocturne“ حيث يَعتبر أن إعادة رسم نفس المواضيع بمثابة إحياءٍ للضمير وإعادة الاعتبار للحالة التي يعرفها المجتمع في ظل الجائحة، التي يُشبهها بضربات متموّجة تخسف بالبشر والحجر على حد سواء، تتمثل مهمته كفنان في إعادة تشخيص الحالة والتعبير عنها بصيغة جمالية متجددة تروم تغيير الواقع المرير والنظر للمستقبل بعين مشرقة تسْترقُالنظر لقبسٍ من النور البعيد محاوِلةً استشراف تغيير المآسي التي تُنتجها الهجرة السرية من جثث طافية تتقاذفها أمواج البحر الليلية، التي تثيرها في القماشة ضربات الفرشاة المتناغمة والمتموجة، مُشَكّلة خطوطَ قوة في العمل لتفرض تركيبا متموجا يتناسق مع الموضوع والرسالة، حيث أضحت تلك الأجساد التي يلفظها الموجُمشاهدَ مألوفة وكليشيهات متداولة بين الناس في المقاهي والحانات وفي سيارات الأجرة.
موح الهاشمي الفنان النشيط الذي لا تتوقف ريشته ولا تنضُب صباغته ولا تنتهي معه المواد والخامات، يُطل علينا بأعمالَ تُشبه “إعادة التدوير recyclage“،حيث يستمدّ من الأسناد supports الخشبية المستعملة قاعدة لبعث الأمل والحياة في واجهات طاولات مدرسية مخدوشة ومحفورة بعوامل الزمن وندوبٍ تركتها أجيال من التلاميذ المتعاقبة لسنوات على فصول الدراسة فأضحت شقوقا غائرة وجُملا محفورة بلا معنى ورسوما مقعرة ومنقوشة بأدوات حادة تعبر عن غرور المراهقة وطيش المرحلة، فيُحوّلها موح الهاشمي لأعمالَ تشكيلية راقية مُوظفا تلك الندوب والنقوش المحفورة التي تصير“موتيفات motifs“ تعبيرية أنيقة ترقى لمستوى جمالي بديع وتبعث الروح من جديد في تلك الطاولة المدرسية التي كادت أن تُحرق في أفران مجهولة أو تتحلل في إحدى المزابل.
الفنان التشكيلي عبد الرفيع الكدالي وفيٌّ كالعادة لنهجه الحداثي moderne أو ما بعد حداثي post-moderne ، يشتغل مفاهيميا conceptuellement ويعي ما يفعل بخبرة متناهية ودقة عالية في اختيار العناصر التشكيلية والمواضيع والتركيبات، في أعماله التجريدية لا مجال للهامش ولا وقت للترف، يغدو لكل صغيرة أو كبيرة معنى ودلالة، هو فنان مُثقف وقارئ جيد مستوعب لتفاصيل الحداثة الفنية ومُدرك لتفاصيل منشأها ومنتهاها ومتتبع للحقل الإبداعي المغربي بكل تلويناته، له عين ناقدة وأحيانا “جارحة“ لكنها لا ترمز إلا لنوع من الغيرة التي تدب في عروق كل فنان أصيل. في هذا المعرض كان ملتزما بخطه الفني الذي سطره منذ أكثر من عقدين من الزمن حيث يشتغل على المفهوم أكثر من اشتغاله على الموضوع وتنتفي لديه الألوان الصاخبة وتظهر محلها الرماديات والأسود بجلاء كما تظهر المادة بارزة بكل تجلياتها في العمل الفني وتتنوع التقنيات من الكولاج إلى الصباغة، يشتغل في هذا المعرض على ثيمة الجدار mur أو الجدرانيات murailles كمفهوم concept وليس كتشخيص أو تمثيل للجدار في حد ذاته كصورة من صور المدينة النمطية، فمفهوم الجدار يرتقي في نظره لرؤية فلسفية تتوخى نقد المجتمع جماليا وتقديم البديل والخلاص الفني.
عبد السلام الخمال الرجل الهادئ الذي لا تكاد تسمع صوته أثناء النقاش، يستمع كثيرا ويتكلم قليلا لكن في كلامه صمت وفي إنصاته كلام كثير يقال، لا يمكن أن نتحدث عن الفنان التشكيلي الخمال دون ربط اسمه بالخربشات التعبيرية والكرافيتي التجريدية التي عُرف بها، ناهيك عن المونوكروم أو اللون الواحد الذي طبع اشتغاله وبصم به مساره الإبداعي الطويل، لكنه في هذا المعرض يستغل نفس العناصر المبحوث فيها لعقود من خلال تجربة جادة ليطور أشكالا ومجسمات ثنائية الأبعاد وثنائية اللون (الأسود كخلفية والأصفر)، مُستلهما من تجاربه القديمة تقنيتا الكرافيتي(الخربشات) والكرافيزم ومُوظفا عناصر اللطخة tacheوالحركة geste والخط ligne والتركيبcomposition، لكن في الأخير نكتشف أشكالا بلا معنى لكنها تكاد تكون أجسادا وجذوعا مبتورة وربما تماثيل ومجسمات لم تكتمل بعدُ أو طالتها يد عوامل التعرية وقسوة الزمن.
مصطفى بلقاضي فنان يشتغل منذ سنوات على تطوير تجربته التشكيلية وجعلها في خدمة المواقف التي تصدر عن المواطن المغربي في معيشه اليومي الروتينيattitude du quotidien، تستهويه الحركات gestesوالاتجاهات، خصوصا تلك التي تصدر عن اليدين والأصابع، هذه الأخيرة يُصورها بطريقة ترنو نحو التكعيبية cubisme الممزوجة في قالب مستقبلي futuriste، لكنه يأخذ طابعا محليا عندما يرتبط بالموضوع كما أنه يركز على القوة اليدوية ويعتبرها موازية لقوة العقل في ثنائية مقارنة بين مفهوميْ ال HOMO-MANUS وال HOMO-SAPIENS، فإذا كان هذا الأخير يستعمل عقله لتسيير شؤون حياته فإن الأول يستعمل القوة اليدوية. فلسفته تقوم على تجسيد اليدين في حُلة لا تقيم وزنا للقواعد الأكاديمية أحيانا بل وتثور عليها في بعض المواقف، غوايته الأشغال اليدوية القوية التي تجعله يُقدس اليد التي تشتغل: يد الفلاح والحرفي والصانع والحداد…، أيادٍ تصنع المجد بخشونتها وقوتها لكنها تحن أوقات الضعف وترق أوقات الحب.
هكذا، في معرض “خمسة فنانين، خمسُ رؤى” قدم الفنانون الخمسة رُؤاهم ونظراتهم الفلسفية للحياة والمجتمع، فاختلفت رؤاهم وتنوعت تقنياتهم وتناقضت مواضيعهم لكنهم اتفقوا على هدف واحد: الفن للجميع والفن فوق الجميع، وأن الفن الراقي دائما يرتقي بإعجاب الناس ويؤثر في وجدانهم بالإيجاب، لأنه بعيد كل البعد عن الابتذال والإسفاف، فالفن رسالةسامية دائما ما ترتقى بالمجتمع وتنهض به وتسموبأخلاقياته وسلوكياته.