أخطاء الماضي ودروس اليوم: الطبيب أولا وأخيرا
ذ. إبراهيم المراكشي
علينا الإقرار أن خطأ توجه المغرب حينما اعتمد منذ فجر سبعينيات القرن الماضي على معيار أعلى المعدلات لولوج كلية الطب، الوحيدة التي كان يتوفر عليها المغرب آنذاك بالرباط. وهو كمعيار ينتقد كثيرا من طرف المختصين لأنه لا يعكس الكفاءة بالضرورة، ويؤدي إلى إقصاء شريحة واسعة ممن لهم الملكات المعرفية التي تؤهلهم لمتابعة دراستهم. قرار يصعب فهمه في وقت لا يخفي على أحد حاجة المغرب الدائمة لكوادره الطبية. فالأطباء من أعمدة التنمية البشرية.
في بداية اشتغالها كانت كلية الطب تعتمد المقابلات الشفوية. وهنا لا يمكن القفز على شخصية محورية أسست لجملة من الأعراف التي باتت تحكم كلية الطب من بعده. يتعلق الأمر بأول عميد لكلية الطب. كانت قناعته واضحة، وهي أن هذه المهنة مؤثرة في المجتمع، لذلك ينبغي ألا تخرج من بين يد الفاسيين الذين كانوا يحتلون قمة تراتبية المجتمع المغربي، والمتحكمين في تلك المرحلة بمقاليد الاقتصاد الوطني. وهذا كان تصور الدولة أيضا. لقد استهدفت أن تكون مهنة الطب نخبوية. نعود لحكاية هذا العميد، حاليا في دار البقاء، غفر الله له ذنوبه. كان يحرص شخصيا على اجتياز المقابلات للمترشحين.
فحسب روايات من تعرضوا للإقصاء من لدنه، فقد كان بعد أن يجتاز المرشح جميع الأسئلة يوجه له السؤال التالي: “أشنو سميت باك أولدي؟”، رغم أن اسمه بالكامل موضوع أمامه، فإذا ما أجابه المتلقي باسم من عامة الشعب، كان يجيبه: “آه آه آه على سمية هادي، ما جبار باك غير هاد السمية هادي؟!”. “أش جابك كلية الطب… سير أولدي تعلم شي صنعة”. كان يتعمد استفزازهم، احتقارهم وتحطيم معنوياتهم، قبل إقصائهم. كان بإمكانه أن يقصيهم بجرة قلم، وكفى المؤمنين شر القتال، لكنه كان يتعمد إذلالهم. أما في حالة ما خامره الشك بإمكانية أن يكون اسم المترشح من أصول فاسية. كان يمطره بوابل من الأسئلة من قبيل: “فين خدام باك؟”، “أش كيجيك فلان فلاني لي فالدرب الفلاني لي عندو محال التوابات؟ “. أخبرني والدي أنه كان يعرف جميع الأسر الفاسية المنتشرة في ربوع الوطن. المترشح الذي يدعي صلته بإحدى الأسر الفاسية كان يضيق عليه الخناق بالأسئلة حتى يتأكد من صحة كلامه، وكان دائما يكشف زيف إدعائهم.
فقد أخبرني والدي رحمه الله حكاية تلميذ، يتيم الأب والأم، درس عنده في ثانوية ابن الخطيب، متفوق في الدراسة وطموحه كان أن يصير يوما طبيبا. لم يخبره والدي بصعوبة ذلك، حتى لا يحطم معنوياته. حينما اقترب الموعد، اقتنى له ملابس جديدة، وأخبره بما ينتظره. وقال له: “إذا وصلتي نلمرحلة لي يبدا يسقسيك شنو سميت باك، جاوبو وقولو: أنا من تافيلالت والله ينصر سيدنا!”. وهذا ما وقع بالضبط. كانت تلك هي العبارة السحرية التي مكنته من ولوج كلية الطب، وكان هو الطالب الوحيد من الفئات الشعبية محاط بأسماء وازنة وثرية جدا. كان أحيانا العميد، الذي كان والحق يقال من أمهر الجراحين في العالم، يمر بجواره في المدرج، ويقول له: “نتا فليتيلي !”. عادة لم يكن عميد كلية الطب يصل مع المترشح لمرحلة طرح هذا السؤال إلا مع من أبان عن علو كعبه، وتفوق في جميع الأسئلة. أما من لم يحالفه الحظ وأخطأ في الجواب عند أول سؤال، أو ظهرت عليه علامات التوتر، كان يصيح في وجهه قائلا: “خرج بارا… أشداك شي طبيب”، وعبارات من هذا القبيل، لكن الحق يقال لم يكن يصدر عنه عبارات نابية. أتذكر الآن هذه الوقائع وأنا أتساءل عن سبب أو أسباب الخصاص الذي يعانيه المغرب في أطره الطبية. حتى عندما نهجت الجهوية في هذا المجال، وأحدثت كليات للطب يكاد تكون بكل جهة، في مراكش وفاس وطنجة ووجدة، بقيت كليات الطب في المغرب حبيسة هذا النهج، حتى وإن أصبحت اليوم مفتوحة أمام العموم، إلا أنها ظلت ذات الاستقطاب المحدود.
وفي حين إذا أراد المغرب أن يرتفع أعداد أطباءه، فأولى الخطوات أن يخفض من عتبة المعدل حتى يتيح ولوج مدرجاتها لأكبر قدر من المترشحين. حاليا يتوفر المغرب على 12 ألف طبيب، وهو نفس الرقم الذي تتوفر عليه تونس. لكن الفرق أن هذه الأخيرة عدد سكانها يقل بكثير عن المغرب. في تونس عدد السكان يصل إلى 18,5 مليون نسمة وفق معطيات سنة 2018، وهو ما يجعل المعدل يصل إلى طبيب لكل 835 نسمة. في المقابل يصل عدد سكان المغاربة إلى ما يعادل 36,5 مليون نسمة.
وللأرقام وقعها الصادم أيضا، وللتخفيف من شدة وقع المعطيات تخبرنا الوزارة الوصية أن المعدل الوطني هو 8 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، من بينهم 7557 طبيب متخصص. مع العلم أن جل الأطباء متمركزين بمدينتي الرباط والدار البيضاء. المغرب معرض أن تتراجع أعداد طواقمه الطبية في ظل ارتفاع احتمالية الإصابة. كل طبيب(ة) مصاب(ة) وكل ممرض(ة) مصاب(ة) هو خسارة للمغرب تضاهي خسارته لكتيبة عسكرية في مواجهة كلاسيكية. ليس مهما الآن كم تبلغ عدد القوات العسكرية لدولة ما، أو ما تملكه من صواريخ وحاملات الطائرات، إلخ. وإنما بما تملكه من طواقم الأطباء. في هذا الإطار تتربع كوبا على عرش أقوى الدول.
أما المغرب حاليا فيواجه كوفيد-19 بإمكانياته المحدودة، ولكن عليه أيضا أن يواجه أخطاء الماضي، كل أخطاء الماضي. إنه المفتاح الذي سيمكننا من النصر والتمكين. وأخيرا كل التحية والتقدير لجنود الخفاء من الأطباء، الممرضين، السلطة وأعوانهم، والدرك، القوات المساعدة، رجال الأمن، الوقاية المدنية، عناصر الجيش، عمال البريد، وعمال النظافة، وكل من خرج في مثل هذه الظروف خدمة للآخر.