بقلم محمد الغول
صيف سنة 693 للميلاد تحركت قوات الأمويين على الساحل الشمال افريقي قادمة من مصر عبر ليبيا بقيادة حسان ابن النعمان ، لتعاود الكرة في محاولة السيطرة على مناطق القبائل الأمازيغية التي تشكل حاليا المنطقة المغاربية، بما فيها تونس الجزائر و المغرب .
قوات حسان ابن النعمان تقدمت بحذر مخافة الغارات المفاجئة للقبائل الأمازيغية ، أو هجوم غير متوقع من القوات البيزنطية ، رغم انها كانت في حالة ضعف كبير ، و لم يعد لها وجود إلا في مناطق ساحلية محدودة ، نتيجة الهجمات المتواصلة للقبائل الأمازيغية عليها .
قوات الأمويين وصلت حتى حدود مجرى وادى شبه جاف في منطقة قاحلة على الطرف الشرقي لوادي مسكيانة أو واد البلاء كما سماه العرب ، حيث عسكر القائد الأموي بقواته بعد أن أخبرته عيونه بتجمع القوات الأمازيغية قريبا منه بقيادة الكاهنة .
الكاهنة إبنة تابنة الزعيمة المتمرسة على فنون الحرب و القتال ، وإستعمال مختلف أنواع الأسلحة وركوب الخيل ، المشهورة في قومها قبائل جراوة المنتمية لتجمع القبائل الامازيغية الكبرى زناتة بالذكاء و الشجاعة ، إنتخبها مجمع الحرب للقبائل الامازيغية ، قائدة للمجهود الحربي للأمازيغ في مواجهة تقدم الأمويين ، وكذا لإستكمال الحرب ضد البيزنطيين ، عقب وفاة الملك الأمازيغي كسيلة في أحد معاركه ضد جيوش الأمويين ، وهو الذي كان يقود مقاومة القبائل الامازيغية للزحف الذي تقوم به قوات الامويين القوية عتادا وعديدا في شمال افريقيا .
كسيلة كان قبل وفاته ، تمكن من وقف هذا الزحف الأموي ، بنهجه سياسة المعارك الخاطفة والمفاجئة مستغلا عامل الأرض ، و ماتتميز به الخيول الأمازيغية من سرعة وقوة .
كسيلة تمكن في إحدى هذه الغارات من قتل عقبة إبن نافع قائد قوات الأمويين، التي اجتاحت شمال افريقيا ، وذلك سنة 683 للميلاد ، دخل بعدها مدينة القيراون وطرد منها القوات الأموية التي إنسحبت شرقا إلى موقع خلفية على الساحل الليبي في منطقة طبرق حاليا .
الملك الأمازيغي كسيلة قتل في إحدى معاركه التي لاتنتهي ضد الأمويين سنة 688 للميلاد و أمام تخوف القبائل الأمازيغية من إنتقام المسلمين لمقتل قائدهم عقبة بن نافع ، وإمكانية إستغلالهم وجود فراغ في القيادة لديهم ، عقد إجتماع موسع لمجلس قيادة القبائل الأمازيغية ، الذي انتهى الى إنتخاب الكاهنة قائدة عامة جديدة للقوات الأمازيغية .
ديهيا بدأت مباشرة بعد إنتخابها في التجول على كل القبائل الأمازيغية من الساحل الأطلسي غربا حتى تونس شرقا لجمع المقاتلين ، وكذا لعقد تحالف موسع للقبائل الأمازيغية ، وتمكنت بذكائها وشجاعتها من إقناع هذه القبائل بجدارتها بالقيادة ، حاشدة جيشا كبيرا من الفرسان و راكبي الجمال و رماة السهام ، هاجمت بهم في مرحلة أولى عاصمة البيزنطين في المنطقة الأمازيغية تمكنت من سحقهم ، متخذة المدينة عاصمة وقاعدة خلفية لها .
في هذه الأثناء كانت القوات الأموية بقيادة حسان إبن النعمان في الساحل الليبي تعد العدة لمعاودة الكر على القبائل الأمازيغية ، وكان القائد حسان يتابع التطورات التي تشهدها المنطقة وقام بالتحرك بقواته غربا، بعد أن توصل بدعم ومدد من الخليفة الأموي عبد المالك .
الكاهنة وبمجرد أن وصلها خبر تحرك قوات حسان إبن النعمان ، أمرت رجالها بالتحرك شرقا .الآن القوات الأموية و القوات الامازيغية تعسكران وجها لوجه ، وسط جو لاهب على ضفتي واد مسكيانة في أخر استعداداتها للمعركة .
في الصباح وقف الجيشان قبالة بعضهما البعض في ساحة جرداء ، و الفارسة الكاهنة تعدو بفرسها بين الصفوف و أمامها ، تحثها على الصمود و حسان ابن النعمان على فرسه وقواده يحمسون رجالهم .
القائد حسان إبن النعمان ، إنتبه إلى أن عديد قوات الامازيغ بقيادة الكاهنة ، يبدو قليلا و أغلبهم مشاة ، و راكبو جمال ، فأحس بأن الفرصة سانحة للقضاء على مقاومة القبائل الأمازيغية ، و إكمال السيطرة الأموية حتى الساحل الأطلسي ، فأمر قواته بالهجوم دون إنتظار ما ستقوم به الكاهنة ، رغم أن حسان كان على علم بدهاء وذكاء الكاهنة العسكري .
إندفعت قوات المسلمين مشاة وفرسانا ، في اتجاه القوات الأمازيغية ، التي ظلت ثابتة في مواقعها تنتظر ، ومع اقتراب قوات حسان من صفوف الأمازيغ ، فجأة تنهال عليهم سحب من النبال تغطي الشمس فوقهم تنهمر عليهم من كل حدب وصوب ، وتسقط العشرات منهم فدب فيهم الخوف والرعب ، خاصة أنهم لايرون مصدر هذه النبال ، التي تفتك بهم ولا يظهر لرماتها أثر ، تراجعوا في فوضى ، ليبغتهم من الجانب الأخر هجوم الفرسان الأمازيغ من وراء تلة قريبة ، مازاد من الإضطراب والفوضى في صفوفهم ، وسقوط مئات القتلى والجرحى ، عندما إستفاق القائد حسان من وقع المفاجأة ، كانت المعركة قد حسمت لفائدة الأمازيغ بقيادة الكاهنة ، فأمر ماتبقى من رجاله بالفرار والإنسحاب إلى موقعهم الخلفي على الساحل الليبي .
القوات الأمازيغية طاردت فلول قوات الأمويين الفارة وتمكنت من أسر عدد كبير منهم ، إستعرضتهم الكاهنة على فرسها بعد المعركة ، و أثار إنتباهها في صفوفهم فتى يافع ، تبدو عليه أثار الغنى ، و ذو وجه حسن ، فقررت تبنيه وإلحاقه بإبنيها الإثنين افران و يازديجان ، ولم يكن هذا الفتى إلا خالد إبن اليزيد ، والذي كان حسان إبن النعمان قائد قوات الامويين عمه ، وأمرت بإطلاق سراح باقي الاسرى .
الكاهنة عادت بقواتها المنتصرة ، إلى قاعدة حكمها لتواصل محاربة آخر فلول البيزنطيين الذين إنسحبوا إلى مراكزهم على الساحل ، رغم أن خطرهم كان لازال قائما ، و لم يخلو ذهن الكاهنة من توقع معاودة قوات المسلمين الكرة مرة أخرى، بعد أن خبرت حربهم وعزيمتهم رغم إنهزامم أمامها ، وهو ما تأكد لها بإستمرار المناوشات مابين قوات الأمويين و القبائل الأمازيغية ، رغم أنها أي الكاهنة لم تسعى لمطاردتهم بعد هزيمتهم على طريقة حرب كسيلة لهم .
القائد حسان إبن النعمان ، راسل الخليفة الأموي عبد الملك بدمشق ، حاثا إياه على إرسال المزيد من الرجال والعتاد ، و بدأ في الإستعداد للمعركة المقبلة ، وفعلا توصل بمدد قوامه ألاف الرجال والفرسان ، وبدأ في مطاردة قوات الكاهنة ولكن بشكل أكثر حذرا هذه المرة ، معتمدا سياسة إستمالة القبائل الأمازيغية الى صفه ، وكذالك على المعلومات القيمة التي كان يمده بعا ابن شقيقه خالد الذي تبنته الكاهنة دهيا ، دون أن تعلم أنه سيكون خطرا عليها .
الحرب إستمرت سجالا مابين الطرفين لمدة تقارب الثلاثين سنة ويزيد ، وفي أواخرها بدأ يظهر التقدم الواضح لقوات المسلمين ، وخاصة بعد أن تولي قيادتها موسى بن نصير ، فكان أن إلتقى الطرفان في معركة أخيرة حاسمة ، ورغم أن الكاهنة كانت تعلم بأن حضوضها في الفوز أصبحت قليلة ، بعد أن تناقص عدد الرجال لديها بشكل كبير ، ولم تبقى وفية لها إلا قوة صغيرة فقد قررت خوض المعركة بشجاعتها المعهودة ، والتي إنتهت بإنتصار القوات الأموية ، الكاهنة تمكنت من الانسحاب الى الجبال بقوة صغيرة من رجالها ، طاردتها بإصرار قوات المسلمين خوفا من أن تعاود تجميع قبائل المنطقة ، وتعود بجيش أقوى ، و بعد معارك في عمق الحبال الأمازيغية ، تمكنت قوات الأمويين من قتل المرأة المحاربة الكاهنة ديهيا ملكة الأمازيغ ، و كانت و فاتها نهاية لحقبة تاريخية من تاريخ الشعب الامازيغي حيث أدى قرار الكاهنة بعد احساسها بقرب نهايتها وحماية لأبنائها ، قررت إرسالهم إلى معسكر المسلمين ، حيث أستقبلوا إستقبالا حسنا وأعتنقوا الاسلام ، الأمر الذي أدى إلى قبول القبائل الأمازيغية بإنهاء مقاومة الزحف الأموي ، حيث إلتحق الالاف منهم مقاتلين في صفوف المسلمين ، تحت قيادة أبناء الكاهنة ديهيا ، وهو ما مكن الأمويين من القضاء بسهولة على ما تبقى من الوجود البيزنطي وبداية التفكير في عبور مضيق جبل طارق وتلك حكاية أخرى نرويها .