بقلم محمد الغول
في القرن السادس عشرا ، كانت بحيرة الأبيض المتوسط ، عرضة لصراعات سياسية هائلة لإحكام السيطرة عليها ، المعارك البحرية كانت تقريبا ، لاتتوقف فيها مابين الأساطيل العثمانية والأساطيل الأوروبية ، خاصة الإسبانية و البرتغالية والإيطالية منها ، كما نشطت سفن قراصنة من تونس وليبيا والجزائر وحتى من المغرب ، موالية للعثمانين ولو إسميا ، تهاجم السفن التجارية و الحربية للإوروبين ، كما كانت الصراعات السياسية محتدمة كذلك ، والعروش تنتقل من شخص لآخر ومن عائلة لأخرى في لمح البصر كما التحالفات .
في هذه الأجواء كان المغرب تمكن من الاحتفاظ بإستقلاله عن هيمنة ،العثمانيين رغم تمكنهم من كل المنطقة العربية وشمال إفريقيا ، الأوضاع السياسية في المغرب في هذه الفترة مضطربة وغير مستقرة ، حيث وقع خلاف داخل الأسرة السعدية حول الأحق بتولي منصب السلطان بفاس بعد وفاة أبومروان مابين المتوكل و عبد الملك و أخيه أحمد ، فلما تمكن المتوكل من السلطة خطط لقتل إبني عمه ، والتخلص نهائيا من أطماعهم في تولي السلطان ، لكن الأخيرين علما بما يخطط لهما فتمكنا من الهروب ، ملتحقين بالجزائر ، حيث طلبا الحلف والمساعدة من السلطان العثماني بإسطمبول ، الذي وافق على طلبهم ، و أمر باي الجزائر بأن يرسل مع عبد الملك خمسة ألاف رجل من الجنود الأتراك .
عبد الملك معززا بالقوات التركية ، تمكن من دخول عاصمة الدولة السعدية فاس ، مستعيدا عرش السلطان الذي يرى نفسه به أحق ، في حين المتوكل و بعد تمكنه من الفرار ، بعد مطاردة شرسة له ، لجأ إلى مدينة سبتة ، حيث طلب هو الآخر الدعم من الملك الإسباني ، هذا الأخير تخوف من الإنجرار إلى معركة ليس مستعدا لها ، فرفض عرض المتوكل ، الذي إلتحق بمدينة طنجة التي كان يحكمها آنذاك البرتغاليون ، طالبا الحماية والدعم من ملك البرتغال ، فقبل هذا الاخير طلبه على شرط أن يسلمه المتوكل كل الثغور و المدن المغربية الساحلية عندما يستعيد سلطته .
هذه الأجواء و الاحداث التي نوردها هنا ضرورية لفهم ما سيليها ، فقد كانت مقدمة لحرب حاسمة ، غيرت الكثير من الأوضاع السياسية في غرب المتوسط ، سواء في المغرب كما في شبه الجزيرة الإيبيرية ، هذه المعركة كان لها حتى تداعيات دولية ، جعلتها تدخل التاريخ الدولي كواحدة من أشهر المعارك في التاريخ الإنساني .
الملك البرتغالي الشاب “سبستيان” ، الذي ورث إمبراطورية ممتدة من آسيا حتى أمريكا ، فكان مغترا بقوته رغم قلة خبرته ، يؤمن بأنه على المسيحين إحتلال المغرب لقطع الطريق أمام المسلمين و إحتمال تفكيرهم في إستعادة الاندلس ، خاصة وأن الإمبراطورية العثمانية كانت في أوج قوتها ، تتمدد في أوروبا غربا ، و إقتسم “سبستيان” أفكاره هذه مع خاله ملك إسبانيا ، لكن لم يجد لديه حماسا كبيرا للتوغل في الآراضي المغربية ، فقدكان يرى أن يكتفوا بإحتلال الثغور و المدن الساحلية فقط ، فلم وقع “سبستيان ” إتفاقه مع المتوكل السعدي الذي لجئ إليه يطلب مساعدته لإستعادة السلطان ، وافق بحماس وبدأ في حشد قواته وجمع الأسطول ، وأ سل يطلب المساعدة والدعم من كل الملوك الأوربيين ، حتى من خاله ملك اسبانيا كما من البابا في روما معتبرا الأمر حربا صليبية لصالح المسيحية ضد الاسلام .
خال “سبستيان” ملك إسبانيا ، ورغم عدم حماسه للتوغل برا في الآراضي المغربية ، معتبرا ذلك مغامرة غير محسوبة العواقب ، وافق سبستيان ودعمه بسفن الأسطول و عشرين ألفا من جنوده ، كما تدفقت على البرتغال تعزيزات من إيطاليا و ألمانيا ومن البابا ، من الرجال والخيول وحتى السفن فجمع سبستيان ملك البرتغال ، جيشا عظيما قارب الخمسين ألفا رجل .
صباح يوم 24 من شهر يونيو من سنة 1578 للميلاد ، أبحرسبستيان بأسطوله الى طنجة حيث إلتقى بحليفه المتوكل السعدي ، فيما واصل الأسطول البرتغالي إبحاره جنوبا حتى شواطئ العرائش حاليا ، حيث أنزل القوات إلى البر وعسكرت تنتظر الأوامر .
السلطان عبد الملك ، كان بمراكش ،عندما وصلته أخبار نزول القوات البرتغالية ببر العرائش ، فأرسل يحث شقيقه بالخروج بجيش فاس وملاقاته في الطريق ، كما أرسل كذلك إلى باي الجزائر يستحثه الدعم ، فوصلته قوات من متطوعي زواوة الجزائرية و الجنود الأتراك ، فتحركت كل هذه الجيوش ، على أن تكون نقطة تجمعها هي مدينة القصر الكبير على ضفة واد المخازن .
عند وصول القوات المغربية من عاصمتي السلطة آنذاك مراكش وفاس و الدعم التركي الى القصر الكبير ، عسكرت و بدأت إستعداداتها للمعركة ، ناصبة المدافع ال 34 الكبيرة في مواقع إستراتجية لحماية المعسكر ، فيما تشاور السلطان عبد الملك مع شقيقه أحمد ، الذي سيعرف فيما بعد بأحمد الذهبي ، مع قادة الجيش حول خطة الحرب ، هل يقطعون ما تبقى من الطريق نحو معسكر البرتغاليين ؟ ، أم يتربصون في مواقعهم الحالية ، فقر القرار على أن موقعهم أنسب للمعركة و للفرسان المغاربة المعروفين بقدرتهم وبراعتهم في التصويب من على صهوات خيولهم على عكس الأوروبين ، فأرسل عبد الملك مستفزا إلى “سبستيان ” ، أني قطعت إليك مراحل كثيرة فهلا قطعت إلي مرحلة واحدة . فأمرسبستيان جيشه بالتحرك رغم إعتراض عدد من قواده على هذا القرار ، لأن ذالك سيبعدهم عن أسطولهم ومؤنهم وخط الرجعة ، لكن سبستيان كان واثقا وفخورا بقوته فحرك قواته و ال 40 مدفعا التي كان يتسلح بها حتى وصل واد المخازن وعبره بجيشه من القنطرة الوحيدة التي توجد عليه ، معسكرا بقواته على ضفة النهر قبالة معسكر القوات المغربية .
بعد أيام ، ليلة الرابع من شهر غشت من سنة 1578 للميلاد ، تسلل كوماندو من المقاتلين المغاربة تحت جنح ظلام الى ما وراء معسكر البرتغاليين ، حيث قاموا بنسف القنطرة الوحيدة التي تؤمن المرور على واد المخازن .
رغم هذه المفاجأة الغير متوقعة في صباح نفس اليوم ، بدأت الحرب حيث تبادل الجيشان القصف المدفعي بكثافة ، كماهاجم الفرسان المغاربة ببنادق البارود قلب جيش البرتغاليين ، وإستمرت المعركة على هذا المنوال مابين كر وفر وتبادل للقصف المدفعي الذي يسبق موجات هجوم الفرسان وكذا المشاة ، السلطان عبد الملك كان لاينزل عن فرسه ، مستحثا رجاله علىالقتال رغم مرضه الشديد ، حيث إستمات على صهوة جواده يوما كاملا تحت شمس غشت اللاهبة .
أثناء إنشغال الطرفين بالمعركة ، تسلل أحمد الذهبي شقيق السلطان عبد الملك ، يقود كوكبة من الفرسان ، ناور بهم حتى تمكن من مفاجأة البرتغاليين من الخلف ، فدبت الفوضى في صفوفهم و أمر أحمد الذهبي بإشعال النار في مخزون البرتغاليين من البارود ، الأمر الذي أحدث إنفجارات خلقت حالة رعب وهلع في معسكرهم ، فتدافعوا متراجعين فإستغل قواد الجيش المغربي الفرصة مقتحمين بكل قوتهم صدرجيش البرتغاليين ، أين كان يوجد ملكهم سبستيان محاطا بقواده والنبلاء يقاتل بشجاعة ، لكن ذللك لم ينفعه كثيرا أمام الفوضى و حالة الرعب والهلع وتطويق قوات السعديين لجيشه ، تدفعه إلى حافة الوادي ، حيث قتل عدد كبير من البرتغاليين وحلفائهم غرقا ، وكان من الغرقى المتوكل السعدي في حين قتل الملك سبستيان في حمى المعركة ومع سقوطه إنهارت مقاومة الجيش البرتغالي ، فإستسلم الالاف منهم بعد معركة محتدمة ، إستمرت حوالي خمس ساعات في أجواء حارة خانقة زادت من متاعب البرتغاليين ، في هذه الأثناء كان السلطان عبد الملك قد فارق الحياة في خيمته بسبب التعب الشديد الذي لحقه بعد المجهود الذي بذله وهو في حالة مرض ، فأمر حاجبه الخدم بإخفاء الخبر والتستر عليه ، فكانت الأوامر تخرج من خيمة السلطان ، توجه المعركة حتى نهايتها بإنتصار عظيم للمغاربة ، حيث لم يفقد المغاربة في هذه المعركة إلا حوالي 1500 رجل ، في حين قتل للجيش البرتغالي 12 ألف رجل وأسر منه 16 ألف رجل ، بعد نهاية المعركة أعلنت وفاة السلطان عبد الملك ، وتمت البيعة لشقيقه أحمد الذهبي سلطانا جديدا .
هذه المعركة مابعدها كان مختلفا كثيرا عما قبلها ، فهي معركة ذهبت بأرواح ثلاثة ملوك دفعة واحدة ، مانحة المغرب هيبة مابين الأمم ، منعت عنه الأطماع العثمانية كما الأوروبية خاصة الإسبانية منها ، كما أدت هذه المعركة إلى إضعاف الإمبراطورية البرتغالية لفائدة الإسبان الذين إحتلوا سنة بعدها كامل التراب البرتغالي ، بعد إستتاب الأمر للسلطان الجديد أحمد الذهبي بدأ توسعه جنوبا إلى ممالك السودان ، ومن هنا لقبه الذهبي بسبب كثرة الذهب في زمنه القادم من ممالك إفريقيا جنوب الصحراء التي غزاها موسعا إمبراطوريته جنوبا مبتعدا عن التحرش بالإمبراطوريات القوية العثمانية شرقا و الإسبانية شمالا ، التي تجنبت هي الأخرى إستفزازه ونشطت التجارة بشكل كبير في هذه الفترة نتيجة ذلك ، هذا الأمر الذي لم ينهي الصراع مابين المغرب و جيرانه الشماليين بشكل نهائي ، وإنما هدئه لفترة طويلة فقط ، قبل أن يعود وتلك حكاية أخرى نرويها .