بقلم محمد الغول
طوال الفترة مابين العامين 1859 و 1860 للميلاد ، شهدت العاصمة الإسبانية مدريد ، و دهاليز السياسة به ، حمى ملتهبة إسمها المغرب ، حيث كان هذا الموضوع هو الشغل الشاغل للقادة السياسيين والعسكريين الإسبان ، لأسباب متعددة ، أبرزها إبعاد أنظار المواطنيين الإسبان عن الأزمة الإقتصادية الخانقة ، كما عن الفضائح المتتالية للقصر الملكي الإسباني ، إضافة إلى رغبة الإسبان في إستعادة أمجادهم الإستعمارية على حساب عدو تاريخي ، المغرب ، وإستغلال فرصة الضعف الواضح للسلطة في هذا البلد ، كما ضعف قوته العسكرية ، لتحقيق هذا الحلم التاريخي بعد أن كشفت الهزائم المغربية أمام الفرنسيين عن هذا الضعف.
في هذه السنة فتحت مكاتب تطوع في مدن مناطق كطالونيا وبلاد الباسك ، تسابق للتسجيل بها المتطوعون الإسبان مدفوعين بحمى العداء للمغرب ، الذي تزيد من إلتهابه الدعاية العنصرية ضد المغرب في المجتمع الاسباني ، مستغلين في ذلك الهجمات والحصار الدائم الذي تفرضه قبائل أنجرة على مدينة سبتة و كذا القبائل الريفية على مدينة مليلية ، يغديه العداء التاريخي والديني ضد المغرب .
المتطوعون الكطلان و الباسك ، تدفقوا بالالاف الى الجنوب الاسباني ، بالضبط إلى مناطق مالقا و الجزيرة الخضراء ، حيث كان القادة الإسبان يقومون بتجهيزيهم وإعدادهم ووصلت أعداد المتطوعين الى أزيد من 35 ألف رجل ، يضاف إليهم تعداد القوات النظامية الإسبانية ، خاصة منها البحرية ،وهو ما جعل تعداد هذه القوات ، التي حشدها رئيس الحكومة الإسبانية آنذاك الجنرال أودونيل ، يصل إلى حوالي 50 ألف رجل قسمها الى ثلاث مجموعات ، ووضع على رأسها كلا من الجنرال خوان زابالا و أنطونيو ريس ثم رامون دايشاغو .
الحكومة الإسبانية وبعد أن تلقت دعم البرلمان الذي صادق بالإجماع على إعلان الحرب ضد المغرب بتاريخ 22 أكتوبر 1859 للميلاد ، شحذت كل إمكانياتها العسكرية وجمعت أسطولا يتكون من 41 سفينة للحرب والنقل الحربي منها 17 سفينة تعمل بالبخار و أربعة شراعية و عشرين بارجة مدافع .
هذا الحشد الكبير من القوات العسكرية ، رغم الضعف الذي أضهره المغرب في هذه الفترة عن المقاومة ، لم يغامر القادة الإسبان بإنزاله برا ، إلا في ميناء ثغر مدينة سبتة ، التي وصلتها بتاريخ 11 من شهر ديسمبر 1859 للميلاد .
في اليوم الموالي للإنزال العسكري الإسباني في سبتة ، الذي قاده الجنرال روس دي أولانو ، غامرت لأول مرة القوات الإسبانية بالخروج من القلعة المحصنة للثغر إلى الآحراج المحيطة بها ، التي يفرض عليها رجال قبائل أنجرة سيطرة كاملة ، ويمنعون أي تحرك إسباني فيها ، بعد خمسة أيام من القتال الشرس ، أظهر فيها رجال قبيلة أنجرة شراسة وشجاعة كبيرة في القتال ، لكن إمكانياتهم الضعيفة من السلاح و الذخيرة ، جعلتهم يتراجعون ، حيث تمكن الجنرال زابلا من السيطرة على مناطق بليونش ، مبعدا بذلك خطر المقاومة عن ثغر سبتة ، ليتمكن من إكمال إنزاله العسكري بهدوء ، هذا الإنزال الذي أستكمل بتاريخ 21 من شهر ديسمبر 1859 للميلاد .
القوات الإسبانية ، بعد إنهائها لإنزالها العسكري الظخم ، وتوسيع سيطرتها في المناطق المحيطة بالمدينة ، بدأت إستعداداتها للحرب ، و التي كان يخطط منها القادة الإسبان ، إحتلال مدينتي تطوان وطنجة .
القواد المغاربة في تطوان وطنجة و المناطق القريبة ، كانوا بدورهم يعدون العدة لمواجهة هذا العدوان الإسباني ، رغم ضعف إمكانياتهم وعدم توفر جيش نظامي ، حيث أعلنوا الجهاد وبدأ المقاتلون من رجال قبائل أنجرة والقبائل الجبلية ، يتجمعون بمدينة تطوان ثم في الموقع المتقدم ، مدينة الفنيدق حاليا ، (كاستياخوس) ، كما أرسل القواد المغاربة إلى القبائل الريفية في عمق جبال الريف لنفس الغرض .
أول مواجهة مابين الطرفين ، كانت في موقع كاستياخوس قبالة ثغر سبتة بتاريخ الفاتح من شهر يناير من سنة 1860للميلاد و هي المواجهة التي إنتهت بتقهقر القوات المغربية إلى منطقة الجبل الأسود مابعد واد خلو ، تحت وابل القصف المدفعي المزدوج ، الذي طالهم بحرا من البوارج الحربية ، وبرا من قوات الجنرال بريم ، الذي تتحدث الأرقام على أنه كان يتوفر على أزيد من 60 مدفعا ميدان بعيدة المدى .
القوات المغربية ستعاود الكرة ، مهاجمة القوات الإسبانية ، المتقدمة على الطريق الساحلي في تقدمها ، لتبقى تحت غطاء مدفعية بوارجها المتمركزة في عرض البحر قبالتها ، الهجوم المضاد المغربي كان بتاريخ 31 يناير 1860 للميلاد بمنطقة الجبل الاسود ، وللمرة الثانية اضطرت هذه القوات للتراجع في اتجاه تطوان هذه المرة ، تحت ضغط قوة النار لدى الجانب الإسباني ، رغم أنهم تمكنوا من تكبيده خسائر بشرية .
القوات الاسبانية وبعد أن أصبح الطريق أمامها سالكا ، تقدمت بشكل حثيث في إتجاه هدفها الأساسي مدينة تطوان ، حتى أوقفها المعسكر المغربي خارج المدينة ، لتحتدم المعركة الأساسية حول المدينة بشكل شرس طيلة يومي الرابع والخامس من شهر فبراير من سنة 1860 للميلاد ، ومرت أخرى أحدثت المدفعية الإسبانية الفارق ، حيث إضطر تحت ضغطها المقاتلون المغاربة للإنسحاب إلى ماوراء أسوار تطوان ، التي إستسلمت للمتطوعين الكطلان يوما واحدا بعدها ، في السادس من شهر فبراير 1860 للميلاد .
سقوط مدينة تطوان كان ضربة موجعة للمقاومة المغربية ، التي إكتشفت عجز السلاح لديها في مواجهة تقدم الآلية العسكرية الإسبانية .
القادة الاسبان بعد تمكنهم من دخول تطوان ، ورغم الخسائر البشرية الكبيرة التي لم يتوقعوها و الصعوبات التي وضعها أمامهم المقاومون المغاربة ، التي جعلتهم يحتاجون أكثر من شهر لقطع المسافة مابين ثغر سبتة ومدينة تطوان في تقدم بطيئ ، تعطبه الغارات المتكررة التي تقوم بها مجموعات صغيرة من المقاومين المحليين المعزولين عن القوة الأساسية للجيش المغربي ، هؤلاء هم من تسبب في إسقاط اللقسم الأكبر من القتلى الإسبان ، رغم كل ذالك القادة الاسبان قرروا إستغلال الفرصة السانحة آمامهم ، و التقدم نحو هدفهم الثاني مدينة طنجة ، حيث وصلتهم لهذا الغرض تعزيزات جديدة قوامها حوالي 10 ألاف متطوع باسكي أثناء إستعدادهم بتطوان .
في هذه الأثناء كان المتطوعون المغاربة من الريف ، قد تمكنوا من الوصول و أقاموا معسكرهم في منطقة سمسا قبالة تطوان ، مشكلين حاجزا أمام القوات الاسبانية في طريقها نحو طنجة.
يوم 11 من شهر مارس من سنة 1860 للميلاد ، إصطدمت القوات الإسبانية برجال القبائل الريفية في معركة شرسة بمنطقة سمسا ، بعد أيام من المناوشات ورغم شراسة رجال جبال الريف في المعركة إ، لا ان بنادقهم البسيطة لم تمكنهم من الصمود كثيرا ، أمام القوة العددية والنارية للإسبان ليتراجعوا الى الخلف ، الى المنطقة الجبلية في منتصف الطريق مابين طنجة وتطوان ، ملتحقين بقوة سلطانية ، يقودها القائد المولى عباس شقيق السلطان ، الذي كان يوجد شخصيا في طنجة لمتابعة المعركة .
القوات الإسبانية بقيادة كل من الجنرالات ، رافايل آشاغو و أنطونيو روس و خوان بريم ، رغم الإنهاك الذي أصابها من معركة سمسا مع القبائل الريفية ، قررت مواصلة تقدمها في إتجاه طنجة لتصطدم بالقوة المغربية في معركة جديدة في منطقة راس الواد بتاريخ 23 من شهر مارس 1860للميلاد ، تمكن خلالها الإسبان من تحقيق نصر جديد على القوات المغربية ، معتمدين دائما على قوة النار لديهم ، خاصة المدفعية الحديثة ، التي كانت القوات المغربية ، لا تتوفر إلا على قطع قليلة وعتيقة منها ، لم تكن تشكل فارقا في أجواء المعركة .
القوات الإسبانية المنهكة بشدة بسبب كثرة المعارك ، الى جانب استمرار رجال القبائل في مناوشتها بشكل دائم ، وبدون توقف و نتيجة إرتفاع خسائرئها البشرية مابين قتلى وجرحى ، خاصة بعد إنتشار داء الكوليرا في صفوفها ، توقف زحفها على طريق تطوان طنجة ، في منطقة راس الواد ، وإن كان السبب الأساسي لهذا التوقف ، هو التململ الواضح في الموقف الإنجليزي الرافض لدخول القوات الإسبانية مدينة طنجة ، الأمر الذي كانت الديبلوماسية المغربية تلعب على وتره من خلال إتصالات قنصلية كثيفة ، تجري أطوارها بطنجة .
إسبانيا و أمام هذا الوضع ، قبلت بالتفاوض ، هذه المفاوضات التي كانت قد بدأت بتاريخ 11 من شهر مارس 1860 للميلاد ، لكن المعارك والمناوشات تواصلت ، بسبب الشروط الاسبانية المجحفة، التي رفضها شقيق السلطان المولى العباس ، لتستمر الأعمال الحربية حتى معركة راس الواد ، و توقيع اتفاقية وقف اإلاق النار 25 مارس 1860 للميلاد .
المفاوضات توجت بإتفاق للصلح بتاريخ 26 أبريل 1860 للميلاد ، هذه الاتفاقية ورغم أنها عرفت تراجعا كبيرا للشروط الإسبانية ، إلا أنها كانت مسمارا آخر في نعش الاستقلال المغربي ، حيث تضمنت تنازلات كبيرة ، مست السيادة المغربية و شملت مستويات الأرض و المال والدين . القوات الإسبانية لم تنسحب من تطوان إلابعد أزيد من سنتين من احتلالها ، ورغم التنازلات المغربية الكبيرة لإسبانيا بعد هذه الحرب ، إلا أن الرأي العام الإسباني لم يكن مسرورا كثيرا بالنتائج المحققة ، حيث وصفها الإعلام الإسباني بالسلام الصغير لحرب كبيرة ،كما أن نتائج حروب تطوان ، كان ولا بد أن تفتح الصراع المغربي الإسباني على صفحات جديدة ، وتلك حكاية أخرى نرويها .