بقلم محمد الغول
شهر يناير من العام 1889 للميلاد ، وصلت قوة عسكرية بمئات الرجال من الفرسان والراجليين إلى منطقة أجدير ، بعيدا ببعض الكيلومترات عن مدينة الحسيمة حاليا ، في قلب منطقة الريف ، حيث عسكرت هذه القوة في منبسط هناك ، وسط تساؤلات قلقة ومبهمة للساكنة حول ماهية هذه القوة العسكرية الغريبة ، التي حلت بأراضيهم هكذا فجأة ، وتناقلت الساكنة إشاعات مختلفة حول هويتها ومقصدها ، قبل أن يتأكد لهم أنها قوة مخزنية تابعة للسلطان في فاس ، السلطان المولى عبد العزيز ، لكن هدفها ومقصدها ظل مع ذلك غائبا عنهم ، مرت أيام والقوة العسكرية التي يبدو أنها كانت تأخد قسطا من الراحة ، بعد مشوارها الصعب من مدينة فاس حتى أجدير ، مرت من خلاله عبر تضاريس جبال الريف القاسية ، رويدا بدأت الأخبار تتضح والمعلومات تتأكد ، القوة العسكرية قوة سلطانية تابعة للمخزن ، يقودها باشا مدينة فاس المعروف بإسم بوشتى البغدادي ، المعروف كذلك بقسوته وعنفه ، و يبدو أن مقصده قبيلة بقيوة المجاورة ، الثائرة على السلطة المركزية منذ فترة طويلة .
مع تأكد هوية القوة العسكرية و مقصدها من وجودها في هذا الموقع بالذات ، بدأت المخاوف تجتاح ساكنة المنطقة من حرب قاسية قد تعصف بإستقرارهم و طمأنينتهم ، لكن هذه المخاوف ، تراجعت مع مرور الآيام ، دون أن تظهر بوادر على تحرك قريب لهذه القوة العسكرية ، بل كانت الأخبار تتحدث عن مفاوضات مابين قائدها الباشا البغدادي ، وقادة قبيلة بقيوة عبر وسطاء وتبادل رسائل ، فآمن روع الناس أن لا حرب جديدة في الأفق.
في آراضي قبيلة بقيوة، كان رجالها المسلحون متحفزين على بنادقهم ، خوفا من المفاجأة ، قادتهم في إجتماعات متواصلة ، تقرر خلالها نقل مداشر بكاملها من المناطق المنخفظة المكشوفة إلى المناطق المرتفعة ، و الإقتراب أكثر من الشاطئ و الإستعداد لأي طارئ .
الخلافات في الرأي بين قادة القبيلة ، بدأت تظهر مع تواصل المراسلات التي تقاطرت عليهم من باشا فاس بوشتى البغدادي ، التي يتحدث فيها عن ضرورة تقديم فروض الطاعة و الولاء للسلطان ، والتوقف عن هجماتهم ضد السفن الأجنبية ، لأن ذالك يتسبب في مشاكل للسلطان الذي تربطه معاهدات مع هذه الدول الاوروبية ، مؤكدا أنه ليس هنا لمهاجمتهم ولا لمعاقبتهم ، فظهرت آراء تقبل بمطالب باشا فاس وسط قادة بقيوة تجنبا لإراقة الدماء ، خاصة أن القوة العسكرية للبغدادي كبيرة العدد مقارنة مع عدد رجال القبيلة القادرين على حمل السلاح ، آراء أخرى أصرت على ضرورة المواجهة والإستعداد لها ، وعدم التسليم لأن ذالك غير محمود العواقب ، قد ينتهي بعقاب قاسي لهم ، وهم الذين كانوا قد جربوا سحق حملة مخزنية سابقة ، قادها عبد السلام الامراني إبن عم السلطان ، عندما فاجئوه بقوة نيرانهم و شجاعتهم في المواجهة والصمود ، مستغلين بشكل جيد ظروفهم الطبيعية الصعبة والقاسية ، كما تفوقهم في نوعية السلاح ، فقد كان رجال قبيلة بقيوة في أغلبهم ونتيجة علاقاتهم التجارية الواسعة النطاق مع التجار الاوروبين في البحر الابيض المتوسط ، حصلوا على بنادق جيدة وحديثة تطلق رصاصات عوضا عن حشو البارود ، أغلبها من صنع إنجليزي ، في حين كان جنود القوة المخزنية مسلحين بنادق بارود تقليدية ، الواقع الذي جعل رجال قبيلة بقيوة ، يتمكنون بسهولة من سحق رجال عبد السلام الامراني ، رغم الفارق العددي الكبير مابين الطرفين .
لمعرفة أصل كل هذه الاحداث ، يتوجب العودة الى الوراء زمنيا ، فقبيلة بقيوة عرف رجالها بشجاعتهم و قدرتهم على تطويع أمواج المتوسط منذ القدم ، هم راكبو بحر لايشق لهم غبار ، خاصة أن مجالهم الترابي الفقير والجاف والقاسي ، لم يكن يسمح لهم إلا بفلاحة بسيطة بالكاد تكفي حاجتهم ، فلم يجدوا أمامهم إلا البحر الممتدة شواطئه على طول تراب القبيلة.
البقيون طوعوا البحر صيدا وكذا تجارة ، في القرنين 18 و19 ، عرفت منطقة البحر الابيض المتوسط إنتعاشا كبيرا للتجارة وخاصة التهريب منه، فنشط فيه البقيون الذين لايهابون البحر و أمواجه ، وأصبحت لهم شهرة كبيرة مابين التجار الأوروبين ، يتاجرون معهم بسلع محلية إضافة الى سلع مهربة من جبل طارق وسلع قادمة من مالقا الإسبانية ، فتحقق نشاط تجاري محموم جعل نوعا من الإتفاقات والمعاهدات ، ينشأ بين تجار قبيلة بقيوة و التجار الأوروبين ، يلتزم فيه كل طرف بإحترام تعهداته التجارية نحو الآخر .
في هذا الإطار، عقد تجار بقيوة صفقة تجارية ظخمة مع التجار الأوروبين ، دفعوا فيها مبلغا ماليا نقدا و جزءا منه عينا ، لكن التجار الأوروبين أخلوا بالإتفاق ، ولم يسلموا البقيوين السلع المتفق عليها ، متسببين في خسارات فادحة لتجار بقيوة ، فكان أن قرر هؤلاء الإنتقام ، مستفيدين من خبراتهم البحرية وزوارقهم الخشبية السريعة ، بدئوا في إعتراض السفن الأوروبية وقرصنتها لتعويض خسائرهم ، وكذا لتأديب التجار الأوروبيين لكي لايعيدوا الكرة مرة أخرى .
فعلا شن البحارة البقيون بزوارقهم الخشبية السريعة وتسليحهم الجيد غارات متتالية ، مكنتهم من السيطرة على عدد من السفن الأوروبية ، يحتفظ التاريخ بذكر عدد منها ، أشهرها سفينة هولندية ، كما تمكن البحارة البقييون من إنزال مدفع من على سفينة الى الشاطئ ، فتحول الأمر الى مصدر قلق وإزعاج للمصالح التجارية الأوروبية ، خاصة في ضوء الموقع الجغرافي لقبيلة بقيوة ، الذي يسمح لها بمراقبة واسعة المدى من على الساحل ، متحكمين في جزء هام من الممر البحري ، فظج التجار الأوروبيون بالشكوى لدى حكوماتهم ، هذه الاخيرة وجدتها فرصة في إطار أطماعها الإستعمارية ، حيث كانت قد بدأت تتضح في هذه الفترة ، فضغطت على السلطان المولى عبد العزيز ، مهددة ومتوعدة له لكي يوقف نشاط القراصنة البقيوين .
السلطان الذي كان يعلم بأن القبيلة لا تأتمر بأمره ولا تخظع لسلطانه ، أرسل في البداية حملة عسكرية يقودها عبد السلام الامراني ، آلت الى الفشل والهزيمة أمام شجاعة رجال بقيوة وتفوقهم النوعي في السلاح ، رغم ذلك السلطان وتحت ضغط الدول الأوروبية ، قرر إرسال قوة تأديبية جديدة ، هذا المرة إختار لها رجلا عرف بشراسته وعنفه ، وإستعماله للخداع والمكر وسيلة لتحقيق أهدافه ، باشا فاس بوشتى البغدادي .
حملة البغدادي ، تركناها معسكرة في منبسط أجدير ، و قادة بقيوة آراؤهم مختلفة حول طريقة التعامل مع الحملة الجديدة ، في ضوء المراسلات التي وصلتهم من البغدادي ، تعدهم بعدم التعرض لأي ضرر أو انتقام شرط تقديم الطاعة للسلطان ، والتوقف عن مهاجمة سفن الأوروبيين .
في هذه الأثناء في خيمة البغدادي ، مشاورات تجمعه بقادته ، اتفقوا خلالها حسب المعلومات التي جمعوها أنه يستحيل عليهم الإنتصار عسكريا على رجال بقيوة ، فقرر البغدادي اللجوء إلى الخداع من أجل ربح الوقت لتصله تعزيزات جديدة ، أرسل في طلبها من طنجة وتطوان ، فقرر الاستمرار في طمأنة البقيوين ، حتى لايشكوا في حقيقة نواياه ، فكتب رسالة بإسم السلطان قرأها البراح يوم الأحد في السوق المركزي لقبيلة بقيوة المعروف (بالاحد نالرواضي) ، فحوى هذه الرسالة المموهة بإسم السلطان ، التي إقترفها بوشتى البغدادي ، أن السلطان لاينوي شرا ولا إنتقاما من ساكنة بقيوة ، و أنه يسألهم الطاعة وتوقيف أعمالهم البحرية، تجنبا لضغوط الأوروبين على المغرب وحماية لمصالح ، البغدادي منح أهل بقيوة مهلة ثمانية أيام من أجل الاستحابة لنداء السلطان.
هذا النداء زاد في توسع خلافات قادة قبيلة بقيوة بين مصدق يرى الإطئنان لوعود البغدادي ، ومشكك يرى الإستعداد للمعركة ، في هذه الأثناء كانت قوة مخزنية جديد تقترب من آراضي بقيوة من الجهة المعاكسة على طريق البحر قادمة من طنجة وتطوان ، وصول أخبارها الى أهل بقيوة جعلهم يتأكدون بأنهم أصبحوا محاصرين ، ورغم تفوق نوعية السلاح لديهم إلا أن الفارق في العدد ، أصبح الآن هائلا لصالح قوات السلطان ، التي تحاصرهم من الشرق والغرب ولم يعد لهم من منفذ إلا البحر ، الذي كان دائما منفذهم الأثير ، لكن ماذا بالنسبة للأطفال والنساء .
قبل مرور مهلة ثمانية أيام ، التي أمهلهم إياها الباشا بوشتى البغدادي ، توجه حوالي مئتين من قادة قبيلة بقيوة إلى معسكر هذا الأخير معلنين قبولهم بما إشترطه عليهم ، على أن تأمن القبيلة و أهلها ، فإستقبلهم البغدادي ، مظهرا الفرح والسرور ، ودعاهم الى فسطاط ظخم ، ولكي يطمئنوا له ترك لهم أسلحتهم ، وأمر لهم بالطعام والشراب ، فآمن هؤلاء في مجلسهم ، ولم ينتبهوا لرجال البغدادي يحاصرون فسطاطهم بشكل محكم ، فلما قاموا لصلاة الجماعة ، إنهمرت عليهم نيران جنود البغدادي من كل جانب ، ولم يترك لهم أي فرصة للدفاع عن أنفسهم ، فقتل و جرح عدد كبير منهم في حين أعتقل الباقون ، وأرسلوا الى السجن السلطاني بمدينة الصويرة .
بوشتى البغدادي وبمجرد ان أحكم فخه ، أطلق رجاله يعيثون فسادا في كامل تراب قبيلة بقيوة ، يحرقون المداشر وينهبون كل ما وصلته أيديهم ، ويقتلون كل من يجدون في طريقهم ، فتسبب الأمر في فرار جماعي للالاف من ساكنة القبيلة ،حيث فرغت كل مداشرها تقريبا من الساكنة ، التي توزعت مابين القبائل المجاورة ، و بضع مئات من النساء والأطفال ، ركبوا البحر على متن سفينة فرنسية ، نقلتهم الى الجزائر ، و لسنوات بعدها بقيت مداشر أهل بقيوة فارغة على عروشها . هذا الاستسلام من طرف السلطة المخزنية المغربية لضغوط الأوروبين وقيام المخزن بحملات ضد عدد من قبائل الشمال ، المقاومة لتدخلات المستعمر كانت له نتائج عكسية ، أضعفت السلطان و ثارت عدد من القبائل ، كما قامت عدد من الفتن في المنطقة ، ساهمت في تسهيل مأمورية التوغلات الاستعمارية ، وخاصة أمام الضعف العسكري الواضح للمخزن المركزي عن المواجهة العسكرية للقوات الأوروبية ، وتلك حكاية أخرى نرويها .
دعكم من الاوهام بقيوة كانت تتعاون مع الاسبان وكانت لاسبانية قوة في جزيرة بادس والنكور فكيف كان هؤلاء يقومون بمهاجمة السفن