طنجة التي تسكنني
يوسف شبعة الحضري
قصتي مع طنجة، بدأت ببيتنا (مستشفى يهودي سابق)، بغرفة جدتي بالطابق السفلي، مهد الحكاية، بجدران غرفتها(الملكية) صور موزعة لملوك الدولة العلوية في إطاراتها الخشبية العتيقة نسجت العناكب حول بروزهاخيوطها، من بين الصور التي بقيت في ذهني عالقة، صورة الملك محمد الخامس وهو جالس فوق القمر!
كانت تقول جدتي عن الصورة، أن الملك عندما نفي الى مدغشقر، ظهر طيفه على قرص القمر مضيفة بزهو ” بيدي شوفتو”
وهي تطرز ملاءة، ترتق سروالا، تفصل ثوبا أو تمرره على آلة الخياطة “سنجر” تنثر على مسامعنا من معين ذكرياتها الذي لا ينضب خرافاتها أو قصصا عن صديقاتها، عن طنجة التي عاشتها في طفولتها، عندما كانت تأتي على الانتهاء من سرد أي حكاية وكأننا نستفيق من حلم جميل، تدغدغ مشاعرنا بحكاياتها، تعيدنا دائما إلى الوراء…كانت طنجة بالنسبة لها هي كل ما يتعلق بالماضي وكلما أوغلت في حديثها عنها تختم قائلة ” طنجة تمسخت “
أول حكاية سمعتها عن جدتي، كانت عن الوباء الغامض الذي ضرب طنجة مع بداية القرن العشرين، أتى على البشر والحيوان على حد قولها، من يرتاب في صحته يتخلص منه رميا بالرصاص، كان الناس يتساقطون كالذباب، أزقة المدينة القديمة مكدسة بالحيوانات النافقة، حتى الجن لم يسلم من الوباء، أغلقت أبواب المدينة بمزاليج ضخمة، حتى لا يدخل أي أحد إليها خوفا من تفاقم انتقال العدوى، نوافذ البيوت تم طمسها بقطع خشبية خوفا من تسرب الوباء عبر النوافذ، حتى باخرة الحجاج تم منعها من الرسو بميناء المدينة القديمة احترازا من العدوى، من بين من فقدت جدتي في هذا الوباء جدتها
تبقى قصة زواجها من بين القصص الأكثر تداولا بالبيت…..تزوجت صغيرة، لم أشبع اللعب، لم أمشط ضفيرة دميتي، لم أغير ملابسها، في سن اللهو واللعب كنت ربة بيت…..هكذا كانت تقول
لم تر زوجها ( جدي) من قبل، أول يوم تعرفت عليه، يوم وقف على رأسهابغرفة النوم، يوم الدخلة، بجلبابه الصوفي المحبب، ينتعل بلغة صفراء، في لون البقرة التي أمر الله بني اسرائيل بذبحها، كنا نموت ضحكا عندما تقول: لم أعرف من أين دخل من كوة الباب أم نزل من السماء!
كلما أتت على ذكر قصة زواجها، تعاتب حفيداتها قائلة، تغيرت العادات أنتن من تسقن الرجال اليوم إلى عتبات بيوتكن للزواج.
بقيت في رأسي ليلة دخلتها، كما سمعتها من فيهها، بلكنتها الطنجيةالمتميزة، وكيف عاشتها برعب، كل شيء وقع فوق سرير برونزي قديم، صدئ، أتاني من الخلف، عند رجل السرير، أمسكني من خصري، وبدأ يرعى بأرنبة أنفه على جيدي، يتشمم رائحته بين فودي.
قبل ليلة الدخلة، ذهبت للحمام، كما هي العادة، خرجت من البيت تحت وابل من الزغاريد وضرب الدفوف والصلاة والسلام على النبي محمد، بجلباب أبيض( لون الفطرة)، تحمل عني مرافقاتي كل ما يلزم من أدوات الحمام، الأسطل، طست برونزي، كيس، حناء، صابون بلدي، حجرة، صابون، شمبوان بلدي
خرجت من الحمام، كما خرجت من البيت، تحت وقع الزغاريد، خرجت بجسد يرشح برائحة “شقائق النعمان” لم يبق موضع بجسدي لم تدكله ” الكسالة” بأصابعها المتمرسة، وكلما أمعنت دلك جسدي تكرر على مسامعي ” غزالة تبارك الله”
ثم تعرج قائلة، كانت أول مرة يمسني فيها إنسي، أحسست برجلي تنخلع من مكانها، فطن جدكم من نبضات قلبي أني مرتاعة، طلب مني أن أستدير لأملأ عيني بالنظر اليه ولأطرد الخجل الذي لازمني، رفع عن وجهي برقعا أبيضا ( فستان العروس) فتحت عيني على وجهه مليح قد من قمر، وخدين حمراوين، وأنف معقوف نحو الأعلى يشي بالنخوة، طرت فرحا بداخلي، واستبشرت خيرا من حسن طالعي، أخذني بين يديه الى الفراش، كنت مهرتهوكان فارسي في تلك الليلة…..مع العلم أن جدكم كان بحارا يشق عباب البحر!
كانت جدتي، لا تمل من حكاية قصة دخلتها عند كل مناسبة تتزوج فيهاإحدى حفيداتها تفتح أزرار ” الطابو” على مرمى ومسمع حفيداتها بحكاية ليلة دخلتها، لتشيح عنهن الخوف وتهيئهن لليلة الدخلة في خدر لذيذ وما على الزوج إلا أن يقطفهن.
لجدتي أحدا عشر ولادا، بنتان ( عمتي)، وتسعة ذكور( أعمامي)، أنجبتهم بعد يأس من الإنجاب عمر لخمس سنوات (حيواناتها المنوية صغيرة)، قبل أن تحمل، رأت في منامها أحد عشر ضرسا براحة يديها، ظهيرتها طارت الى الفقيه بالزاوية ” الناصرية” بالمدينة القديمة ليفك شفرة حلمها، أخبرها أنها سترزق بالأولاد بعدد الأضراس التي رأتها بيديها….أحد عشر ولدا
وقع ما أخبر به الفقيه، بعد الرؤيا بستة أشهر، حملت ببنت سمتها مريم العذراء “الباتول”
جدي كان يشتغل بمقهى بسوق برا، يضرب على عنقه دائما محفظة جلدية، غالبا ما يكور رأسه بعمامة “صفراء” بسروال عربي فضفاض “قندريسي” أزرق، على كتفه الأيمن يضع جلبابه عندما تشتد حرارة الجو
عندما كان يعود الى البيت مساء، يعود محملا بحقائب من الحكايات، حكايات زبنائه بالمقهى من البنائين والصباغين والحدادين والنجارين…..الذين يفترشون بمعداتهم ساحة سوق برا، بمقهاه الصغير أيضا يجلس صنوف من أهل الموسيقى الروحية من الطائفة ” العيساوية” و “حمادشة” وغيرهم
ليلا، عندما يعود أعمامي الى البيت، منهم من كان يشتغل بالميناء مثل عبد السلام، كبيرهم أحمد كان يشتغل مع أبيه بالمقهى بالسوق، الوالد كان يرافق السياح في جولاتهم بالمدينة القديمة، أحد أعمامي كان أستاذا للغة العربية، زوج عمتي بدوره لا يبرح بيتنا، كان ممرضا بالمستشفى الاسباني، كل مساءعندما يزور جدتي كان يحكي لنا قصصه مع المؤخرات التي يحقنها بالإبر.
من هذا البيت الواقع بطريق “سينارو” وهو طبيب اسباني عاش في طنجة، تشربت الحكايات، جرت بعروقي مجرى الدم، لا يمر يوم دون أن نسمع حكاية، بل حكايات، إذا لم تكن جدتي، يكون جدي، أو أحد أعمامي، يبقى الرابط المشترك في كل الحكايات هي طنجة، فكانت طنجة كالطفلة المدللة عندنا بالبيت
هذا الولع بطنجة، بتفاصيلها، كان يزداد مع الوقت في غفلة من أمري، المدينة القديمة بأزقتها الضيقة، حميمة البيوتات المتلاصقة، دفئ الحكايات في الشتاءات. فضاء سوق الداخل المبلل برذاذ البحر (القريب من الميناء)، كان له سحر خاص على تكويني الشخصي ( سيظهر في عملي الروائي الشريفة)، مقهى سنطرال و قصص البحارة التي لا تنتهي بعرض البحر، حكايات المقامرين في رهانات الخيول….
باختصار وكما يقال، الانسان ابن بيئته، انا ابن الحكايات، رضعتها مع الحليب، وعندما أمسكت القلم لأكتب، وجدت هاته الفضاءات التي كبرت وركضت فيها في صغري، هي من تملي علي، كانت سخية معي، لا أنتقي شخصيات من فضاءات أخرى، بطنجة يكفي أن تلتفت عن يمينك أو شمالك لتجد شخصية روائية أو مادة خام لروايتك تكفي أن تنفخ فيها من خيالك لتستوي رواية
طنجة أرض روائية تحتاج فقط ان يحرثها المبدع