بقلم محمد الغول
عند حلول سنة 1195 ميلادية ، كانت الممالك القشتالية تتحرش بالمسلمين في الأندلس ومدنهم غير آبهة بأنها فعليا تقع تحت سلطة الدولة الموحدية بعدوة المغرب ،و التي كانت في أوج قوتها وإمتدادها الجغرافي .
في هذه السنة نقضت الممالك القشتالية إتفاقية هدنة كانت قد وقعتها مع السلطان يعقوب المنصور الموحدي سنة 1191 ميلادية ، بعد مغامرة ملك البرتغال سانشو الأول بإحتلال مدينة فارو ، فعبر إليه السلطان يعقوب المنصور بجيشه ، مقتحما مناطق ومدن كان القشتاليون قد إستعادوها من المسلمين منذ أربعين سنة ويزيد ، فلم رأى القشتاليون عزيمة وقوة الجيش الموحدي طلبوا من السلطان يعقوب المنصور الهدنة فهادنهم السلطان ، ووقع معهم هدنة لخمس سنوات وقعها الملوك الإسبان والبرتغاليون وعلى رأسهم الملك ألفونسو .
بعد مرور خمس سنوات ، أحس الملوك القشتاليون بتعزز قوتهم ، وخاصة أن ملك قشتالة ألفونسو حصل على دعم البابا ، كما أرسلت له تعزيزات من الممالك المسيحية الأوروبية ، فقرر نقض إتفاقية الهدنة مع الموحدين ، وأرسل قواته تجتاح مناطق المسلمين ، تخرب وتنهب وتسلب وتقتل ، وكما أرسل إلى السلطان بمراكش ، يستفزه ويطلب منه أن يعبر إليه لقتاله إن إستطاع إلى ذلك سبيلا .
غضب السلطان يعقوب المنصور ، غضبا شديدا من المضمون الإستفزازي لرسالة ألفونسو فأعلن في المساجد النفير للجهاد و المسير إلى عدوة الأندلس لوضع حد لعربدة القوات القشتالية وتأديبها ، فإجتمع له جيش كبير يتجاوز 60 ألف رجل ، وصل بهم الأندلس عابرا مضيق جبل طارق ، حاثا المسير من الجزيرة الخضراء حتى إشبلية ، أين إلتقى بالجيش الأندلسي و أعلن المسير نحو عاصمة ألفونسو طليطلة .
في طريقه وصلت السلطان يعقوب المنصور من عيونه وقوات الإستطلاع معلومات تؤكد له أن ألفونسو ، يعسكر بقواته عن قلعة الآرك ( آلركوس ) في مكان مرتفع ، و أن تعزيزات وصلته من مختلف المناطق الإيبرية ، حتى بلغ تعداد جيشه 100 ألف ويزيد ، وأنه أي الفونسو أرسل يطلب دعم منافسيه من ملوك نافارا و ليون ، الذين وعدوه خيرا ولكنهم يماطلون حتى ذلك الوقت في إرسال تعزيزات له .
السلطان قرر رغم تلك المعلومات التي وصلته أن يواجه القوات القشتالية في ميدانها الذي إختارته للمعركة ، مغيرا وجهة جيشه الى قلعة الآرك ، حيث عسكر بجيشه في سهل منخفظ على مسافة غير قريبة حذرا من المفاجأت قبالة جيش قشتالة المتحصن بالمرتفع جاعلا في ظهره قلعة الآرك لحمايته .
يعقوب المنصور ،بدأ مباشرة الإستعداد لمعركته التي أرادها حاسمة ، تقصم ظهر الممالك القشتالية ، وتمنع آذاها عن المسلمين بالأندلس ، وبعد مشاورات بخيمة القيادة ، قسم السلطان جيشه إلى ميمنة تتكون من الاندلسيين ، منح قيادتها لأبو عبد الله بن صناديد ، وميسرة من المتطوعين من العرب و الأمازيغ ، تاركا قواته النظامية كقلب لجيشه ، في حين بقي هو في الخلف بحرسه الخاص و قوات الإحتياط .
في المعسكر المعادي ، كانت الإستعددات ، تجري كذلك على قدم وساق ، و المشاورات مابين قادة الجيش تتواصل وتحتد حول الخطة الأمثل لمواجهة المسلمين ، فتم الإتفاق على إستغلال وضع معسكرهم الجغرافي في مكان مرتفع ، لمهاجمة المسلمين على شكل موجات متتالية موجة تعوض أخرى وخاصة من الفرسان حتى إقتحام صدر الجيش الموحدي والقضاء عليه .
صبيحة يوم 18 من يونيو 1195 ميلادية ، إنطلقت المعركة فتقدم الفرسان القشتاليون بتعداد يصل حوالي 50 ألف فارس ، يقودهم لوبيز دي هارو ، الذراع الأيمن لملك قشالة ألفونسو ، وكان هذا الأخير أمام تباطؤ ملوك نافارا وليون في دعمه ، إستعان بفرسان حامية قلعة الآرك وقلعة رباح ، فجمع بذلك عددا هائلا من الفرسان ، قرر إستعماله كسلاح كاسح ضد جيش المسلمين .
قوات الموحدين ، تمكنت من صد موجات الهجمات المتتالية للفرسان القشتاليين ، لكن مع تواليها والأعداد الهائلة للفرسان ، بدأ التعب يدب في أوصال جيش الموحدين ، ولم تنفع إستماتة الميمنة الأندلسية ولا الميسرة من المتطوعين العرب و الأمازيغ في حماية صدر الجيش ، حيث إقتحمها القائد القشتالي لوبيز دي هارو، بوحدات الفرسان متمكنا من ضعضعة صفوف قوات الموحديين التي بدأت تتراجع أمام ضغط فرسان قشتالة ، و تساقط الالآف من جيش الموحديين قتلى و جرحى ، كما قتل القائد العام للجيش الموحدي أبو يحيي بن أبي حفص ، فإستشرف يعقوب المنصور من مرتفعه الخطر ، فقرر المبادرة وإقتحم الصفوف فارسا يحث ويستحث قواته على الصمود ، مناديا جددوا نياتكم و أحضروا قلوبكم .
ساهمت شجاعة يعقوب المنصور في إعادة الثقة لمقاتليه ، فصمدوا في مقاومة الموجات المتتالية لهجمات قوات قشتالة خاصة الفرسان منهم في حين مالت ميمنة الجيش المكونة من الأندلسيين وساندهم مقاتلوا قبيلة زناتة على قلب المعركة فتمكنوا من فصل رأس جيش القشتاليين عن باقي جسده ، فاسحين المجال أمام صدر جيش الموحديين لإستعادة المبادرة والقضاء على الصفوف المتقدمة للقشتاليين .
في هذه اللحظة ، إقتحم يعقوب المنصور المعركة بحرسه وقوات الإحتياط ، مشكلا زخما لقواته فتمكنت من سحق قوات القشتاليين ، رغم استماتتهم في الدفاع متمترسين حول ملكهم ألفونسو ولكن ذلك لم ينفعهم كثيرا ، حيث تمكنت قوات الموحديين من سحق مقاومتهم ، ففر القائد لوبيز دي هارو بفرسانه نحو قلعة الآرك للاحتماء بها ، في حين إنسحب هاربا ألفونسو الى عاصمة ملكه طليطلة ، التي دخلها منكس الرأس ، ونكس صليبه وحلق رأسه ولحيته ، و نذر أن لا ينام على فراش و أن لايقرب النساء و لايركب فرسا حتى يأخذ بثأره من المسلميين .
قوات الموحديين لم تترك غبار المعركة يخف حتى كانت تحاصر قلعة الآرك الحصينة ، التي استسلم قائدها لوبيز دي هارو ورجاله بعد مقاومة بسيطة ، فيما تابع السلطان يعقوب المنصور إسقاط عدد من قلاع القشتاليين ومدنهم ، قبل أن يحاصر طليطلة و يمطرها بقذائف المنجنيق حتى كاد يقتحمها ، لولا ما تذكره مصادر التاريخ من أن والدة ألفونسو ونسائه و بناته خرجن باكيات مترجيات يعقوب المنصور أن يترك لهن المدينة سالمة ، فأشفق السلطان على حالهن وقبل بطلب الصلح الذي ترجاه من أجله ألفونسو ، وقفل عائدا بقواته إلى قرطبة حيث أعاد تنظيم القيادة في الأندلس ، قبل أن يعود أدراجه إلى عاصمة ملكه بمراكش ، من حيث كانت تصله أخبار مشاكل وقلاقل ، فعجل بالعودة لقطع دابرها ، بعد معركة الآرك ( آلركوس ) التي قتل فيها حوالي 30 ألفا من جنود قشتالة ، إستتب الأمر للموحدين بالأندلس ، وخمدت ولو الى حين مكائد وتحرشات الممالك الإسبانية بالأندلسيين ، لكن هذا الامر لم يطل كثيرا قبل أن يعاود الإسبان سياستهم القديمة في الإعتداء وتلك حكاية أخرى نرويها