بقلم محمد الغول
البرتغاليين ومنذ إحتلالهم لثغر سبتة و بعدهم الإسبان ، وهم يحاولون جاهدين توسيح المساحة الجغرافية لهذا الثغر ، لجعله أولا آمنا ، وثانيا لجعله يتمتع بمقومات تحويله إلى قاعدة ، ينطلقون منها في هجماتهم الى العمق المغربي .
هذا الأمر لم يستقم لهم أبدا ، فلا البرتغاليون ولا الإسبان ، تمكنوا أبدا من تحقيق هذا الهدف ، رغم كل الحملات العسكرية التي قاموا بها من أجله ، و لهذا ظل ثغر سبتة وبقى حتى زمن قريب مجرد ميناء صغير محصن بشدة ، ومحاط بخنادق مائية .
عدم قدرة البرتغاليين والإسبان على التوسع ، إنطلاقا من الثغر السبتي ، يرجع بالأساس لصمود قبيلة أنجرة في الدفاع عن آراضيها في محيط المدينة ، وكثيرا ما كانت قبيلة أنجرة تحضى بدعم شقيقاتها من القبائل الجبلية والريفية ، في معاركها الكثيرة التي لم تكن تتوقف إلا لتبدأ .
العامين 1859 و1860 للميلاد ، عرفتا حربا طاحنة ، إقتحمت خلالها القوات الإسبانية ، إلى عمق التراب المغربي ، حيث إحتلت مدينة تطوان ، وكانت بصدد محاولة إحتلال مدينة طنجة .
هذه الحرب لم تتوقف إلا بعد معارك قوية ، تكبد فيها الإسبان خسائر فادحة في الأرواح ، زاد منها إنتشار داء الكوليرا في صفوفهم ، الأمر الذي منعهم من دخول مدينة طنجة ، إلى جانب تدخل الإنجليز ، الذين عارضوا هذه الرغبة الإسبانية ، فتوقفت المعارك بإتفاقية مابين السلطان والإسبان ،تمت بعد مفاوضات بمنطقة وادراس ، وإذا كانت هذه الحرب ، كشفت ضعف القوات النظامية المخزنية أمام الأطماع الإستعمارية ، فهي أكدت الدور المحوري الذي تلعبه القبائل المغربية في مقاومة أي غزو ، حيث كان لقبائل جبالة و الريف ، تضحيات جليلة في هذه المعارك والحروب ،وكما أكدت هذه الحرب ، وقوف قبيلة أنجرة شوكة في حلق أطماع الإسبان في ثغر سبتة ، حيث كان من الشروط التي أصر عليها الإسبان على إدراجها إتفاقية إنهاء الحرب مع السلطان ، إرساله محلة مخزنية تعسكر في محيط سبتة ، لمنع رجال قبيلة أنجرة من مهاجمة الثغر ، والذي يعزز المشهد هو أن القوات الإسبانية في زحفها نحو تطوان ، تجنبت مناطق قبيلة أنجرة ، وكذلك عند انعطافتها نحو طنجة ، وبل ظلت قوافل المؤن الإسبانية نحو تطوان بعد إحتلالها ، تتعرض لهجمات دورية من طرف مقاتلي قبيلة أنجرة .
خلال فترة إحتلال الإسبان لتطوان للمرة الثانية بتاريخ 19 من شهر فبراير من سنة 1913، عرفت تسجيل عدد من المعارك مابين الإسبان ومقاتلي أنجرة ، حيث سجلت معركة بكدية الفحم، ثم أخرى بكدية إفرسيين ، ثم مواجهة ثالثة بكدية فديركو ، ورابعة بمنطقة الريفيين ، وهذه كلها مناطق مجاورة لثغر سبتة ، في إتجاه تطوان ، وكما تدل أسماؤها فحضور قبائل الريف في مواجهة الإسبان دعما لأشقائهم في أنجرة كان وازنا ومستمرا .
شكل مركز قرية البيوت على الدوام ، نقطة تجمع المقاتليين سواء من أنجرة أو من الريف أو من جبالة ، كما أن القوات النظامية المخزنية بدورها ، كانت تعسكر هناك في مواجهة الإسبان ، ورغم أن القرية ، قرية البيوت ليست ذات موقع إستراتيجي ، إلا أنها صمدت دائما ، وبعزم المقاومين أمام أي محاولة إحتلال ، أو توسع إسباني ، حتى تحولت قرية البيوت إلى لعنة تطارد الإسبان في سبتة، تقض مضجعهم ، قصفوها بالمدافع ، حاصروها ، أحرقوا منازلها مستعنيين ببعض الخونة ، هاجموها ،حرضوا عليها السلطات المخزنية ، لكنها بقيت عصية عليهم وشوكة في حلق الإسبان .
هذا الوضع ، دفع الجنرالات الإسبان للتفكير في وضع حد نهائي لعناد مقاتلي أنجرة ، ولعنة قرية البيوت ، فحشدوا لهذا الغرض ، قوات قدر عددها بحوالي 20 ألف من المشاة ، وحوالي 6 آلاف فارس ، جزء من هذه القوات كان من المغاربة ( الريغولاريس ) الذين كان الجيش الاسباني ، قد بدأ بإستخدامهم تعويضا لنقص الرجال لديه ، مستفيدا من معرفتهم بالأرض ، كما حشدت إسبانيا دعم رجال الريسوني ، الذي كان قد هادن الإسبان في هذه الفترة ، فشارك معهم بحوالي 6 اآاف رجل ، هذا الحشد العسكري الإسباني الظخم و أعوانهم ، تحرك من سبتة بتاريخ 28 من شهر يونيو من سنة 1916 ، بقيادة الجنرال ميلانس ، متوجها مباشرة إلى قرية البيوت ، و أعطيت إشارة الهجوم في حوالي الثالثة صباحا ، وطيلة يومين كاملين قاوم مقاتلوا قبيلة أنجرة و قبائل الريف و جبالة في موقع البيوت ببسالة ، مكبدين الإسبان خسائر فادحة من الأرواح ، حيث قدرت خسائرهم بحوالي ثمانين رجلا بينهم كولونيل وعدد من الضباط إضافة الى الجنود ، ويقال أنه لولا مشاركة الريسوني برجاله في هذه المعارك ، لما تمكن أبدا الإسبان من إقتحام قرية البيوت ، وإنهاء رباط المقاومين بها ، حيث إستغل الريسوني أجواء المعركة الحامية ، وإنشغال المقاتلين المغاربة في البيوت بصد هجوم الإسبان ، ليتسلل برجاله ، مباغتا لهم من الخلف ، ما أوقع مقاتلي القبائل في المصيدة مابين نارين الإسبان ظن خلفهم و الريسوني ورجاله من خلفهم ، ومن صدف هذه المعركة أن كان بين الجرحى خلالها ، ضابط إسباني سيكون له بعد ذالك شأن كبير في تاريخ هذا البلد ، يتعلق الأمر بفرانكو الذي كان يقود فرقة من المقاتلين المغاربة المجندين في الجيش الإسباني (الريغلاريس ) ، عندما أصابته رصاصة أسفل بطنه بشكل خطير ، حتى أعتقد بأنه مات ، ولم تنقذه إلا شجاعة إثنين من مقاتلي الفيلق المغربي في الجيش الاسباني ، اللذين قانا بسحبه من المعركة حتى مستشفى الميدان بكدية فدريكو وهو فاقد للوعي ، ويقال بأن المغربيان هما الدكالي محمد و المكي بن محمد الفاسي ، ومن هنا بدأت علاقة الثقة التي ربطت فرانكو بالمقاتلين المغاربة ، حتى أنهم كانوا سببا في وصوله الى قمة هرم السلطة في إسبانيا ، حيث شكلوا كانوا قوته الضاربة في الحرب الأهلية الإسبانية وتلك حكاية أخرى نرويها .