بقلم محمد الغول
صبيحة يوم 29 من شهر شتنبر من سنة 1893للميلاد ، إستفاقت ساكنة مناطق قلعية التي تحاصر مدينة مليلية من كل الجهات ، إستفاقت صباح هذا اليوم على تحركات مريبة للجنود الإسبان في هذا الثغر ، خروج جماعات منهم ودخولهم بشكل متكرر ، عمليات قياس و مراقبة و فرق من جنودهم ، تتجاوز بشكل حذر المسافات المعتادة في خروجهم من المدينة ، الذي لايتجاوز تحصيناتهم حتى في فترات الهدوء ، التي تطبع العلاقات المتوترة بين ساكنة الثغر من الاسبان والقبائل الريفية المجاورة ، والتي تتحول إلى إشتباكات عنيفة لأتفه الأسباب ،تحركات الجنود الإسبان لهذا الصباح ، كانت مريبة وتابعها ساكنة قلعية بقلق وشك كبير ، خاصة في هذا الوقت الذي كان يعرف تراجعا في موازين القوة العسكرية لصالح الإسبان على حساب المخزن ، الأمرالذي قد يشجع الإسبان على محاولة تحقيق هدفهم الأزلي ، توسيع المساحة الجغرافية لثغر مليلية على حساب أراضي قلعية .
أخبار التحركات المشبوهة للجنود الاسبان سرعان ماوصلت أسماع أعيان وقادة قبائل المنطقة ، الذين قرروا فرض رقابة صارمة ، لمعرفة نوايا الإسبان ، ووضعوا لهذا الغرض مجموعات من الرجال الأشداء المسلحين ، يتناوبون على حراسة ومراقبة التحركات الاسبانية ، بشكل مستمر.
سرعان ماتبينت حقيقة هذه التحركات ، وكشف الإسبان عن نواياهم ، التي لم تختلف كثيرا عن تخوفات القبائل الريفية ، حيث بدأ الإسبان بناء أسوار جديدة في محيط ثغر مليلية ، و مواقع هذه الأسوار الجديدة يكشف توسيعا لجغرافية الثغر كما كان متوقعا من طرفهم .
إجتمع أعيان قبيلة قلعية ، وخلص إجتماعهم هذا إلى أن يمنعوا بكل الوسائل الممكنة هذا الاعتداء الجديد للإسبان على آراضيهم ، مؤكدين على أن تكون خطوتهم الأولى ديبلوماسية ، فهم كانوا يعرفون ان إمكانياتهم العسكرية ، لا تسمح لهم بمواجهة القوة العسكرية الاسبانية ، و شجاعتهم العارية لن تنفعهم كثيرا ، كما كانوا يعرفون أنه لايمكنهم التعويل كثيرا على السلطان والمخزن المركزي المقيد بإتفاقياته و تعهداته تجاه الأوروبيين ، إضافة إلى ضعفه العسكري .
أعيان قبيلة قلعية قرروا مراسلة السلطات الإسبانية ، وعلى رأسها الملكة ماريا كريستينا ،و فعلا سلموا رسالة في هذا الصدد للحاكم العسكري لمليلية خوان خوسي مارغايو، في نفس الوقت قامت جماعات مسلحة من رجال قبائل قلعية بالتسلل ليلا ، وهدم كل ماقام الإسبان ببنائه كأساسات وأسوار ، هذا الأمر تحول الى مايشبه اللعبة طيلة مدة طويلة ، الإسبان يبنون نهارا وينسحبون إلى تحصيناتهم ، وليلا يتسلل رجال قلعية لهدم كل بناء جديد ، التوتر كان يتصاعد مع كل يوم جديد ، خاصة في ظوء تأكد أعيان قبائل قلعية من أن مراسلاتهم لن تأتي بنتيجة .
التوتر المتصاعد أدى الى ما كان متوقعا ، حيث نشبت إشتباكات متقطعة و تبادل لإطلاق النار مابين رجال قبائل قلعية المسلحين والجنود الإسبان .
أعيان قبائل قلعية و أمام تنبههم إلى خطورة الوضع ، قرروا الإستعداد لكل الإحتمالات ، فأرسلوا يطلبون العون والمساعدة من جيرانهم من باقي القبائل الريفية الشرقية ، فتدفق المقاتلون من قبائل كبدانة و أيت شيكر و فرخانة ومزوجة و مناطق أخرى ، مشكلين قوة كبيرة بالاف الرجال ، هناك من قدر عددهم في حدود ثلاثين ألفا رجل ، مسلحين بالبنادق وكل ما طالته أيديهم من آدوات حادة ، وحتى الهروات ، هذه القوات فرضت طوق حصار شامل على ثغر مليلية ، و أمام هذه الأعداد الكبيرة ، تخوف القائد الإسباني خوان خوسي مارياغو على رجاله ، فأعلن إنسحابا شاملا ، تاركا كل التحصينات خارج الأسوار القديمة للثغر ، هذا الإنسحاب الذي تم تحت وابل من رصاص المقاتلين الريفيين ، الذين تقدموا حتى أسوار مليلية ، قبل أن تردهم عنها قذائف المدافع الإسبانية ، المقاتلون إنسحبوا إلى الخلف ، دون رفع حصارهم الذي تحول الى حصار طويل الأمد ، تتخلله معارك طاحنة عند أي محاولة للجنود الإسبان لتجاوز بوابات الثغر ، ولو تحت حماية مدافعهم ، تكبدوا في هذه المعارك خسائر بشرية متتالية ، ومع بداية وصول نعوش الضحايا الإسبان إلى البر الإسباني عبر ميناء مالقا ، بدأت الحكومة الإسبانية تشعر بالقلق حول تطورات الوضع ، فحشدت لإرسال قوات جديدة إلى ثغر مليلية ، رغم أن أوضاعها العسكرية والإقتصادية لم تكن تسمح لها بذلك ، داعية حلفائها الأوروبين للضغط معها على السلطان ، من أجل وقف ما سموها إعتداءات الريفيين على آراضيهم ، في هذا الصدد السلطات الإسبانية راسلت السلطان متوعدة ومهددة بأوخم العواقب ، في حالة عدم لجمه للقبائل الريفية .
في هذا الوقت كانت القوات الإسبانية في ثغر مليلية ، وتحت حماية مدافعها اىقوية ، تمكنت من إنهاء شبكة من الخنادق حول المدينة ، لكي تتمكن من الإنتشار بها ، ومواجهة المقاومين الذين يحاصرون المدينة ، بعد وصول إمدادات جديدة لهم بحوالي ألفي رجل ، لكن ذلك لم يفلح في زحزحة مقاتلي القبائل الريفية الشرقية عن مواقعها ، رغم الهجمات المتكررة للجنود الإسبان التي كانت تفشل متكبدة خسائر فادحة
(يتبع)