بقلم محمد الغول
صباح يوم الفاتح من شهر غشت ، إستفاقت الدارالبيضاء على بدن سفينة حربية مرعبة ، تقف في عرض البحر قبالة المدينة ، هذه كانت المدمرة الفرنسية جاليلي ، والتحقت بها بعد يوم المدمرة الإسبانية إلفارو.
عيون قبائل الشاوية التي رصدت وصول السفينتين ، توقعتا شرا مستطيرا منهما ، في حين تذكر عدد من المصادر التاريخية ، أن سفينة جاليلي أنزلت كومندو عسكري بلباس مدني للتمويه ، يحملون صناديق تعج بالرشاشات و البنادق والذخيرة مكتوب عليها أنها أغدية مرت من الميناء ، بتواطئ المراقبين المغاربة الذين كانوا يأتمرون بآوامر قائد المدينة ، الذي كان مستسلما للضغوط الأجنبية على غرار كل السلطة المخزنية ، رغم التحذيرات المتوالية التي وجهها له أعيان قبائل الشاوية لتوقيف تعامله وتهاونه مع الأجانب.
الكومندو الفرنسي ، توجه وفق خطة معدة سلفا إلى مقر القنصلية الفرنسية التي تم تحويلها إلى ثكنة عسكرية محصنة ومدججة بالأسلحة ، إحتمى بها آجانب المدينة ، خاصة القناصل وهم قنصل إنجلترا مادن ، قنص إسبانيا رويز و غراسيانو القنصل الايطالي ، و نائب قنصل الدنماراك و كذا نائب قنصل البرتغال و قنصل المانيا ، و الأهم القنصل الفرنسي مالبرتي المشرف على كل العملية . .
عندما أكمل الفرنسيون تحصين مقر القنصلية بالدار البيضاء ، بعثوا بالإشارة المتفق عليها مع المدمرة جاليلي ، لبدئ قصف المدينة ، في وقت كانت سفينة حربية ثالثة هي البارجة دي شايلا قد إلتحقت بالمدمرتين الفرنسية والإسبانية ، فبدأت القطع الحربية الثلاث في إمطار المدينة بسيل من القذائف المدفعية ، طالت جميع مناطق المدينة بدون إستثناء ، إلا محيط القنصلية الفرنسية بحي القنصليات ، وابل النيران تسبب في مقتل مئات المواطنين ، فيما حاول من تبقى من ساكنة المدينة ومعهم بعض الجنود الدفاع عن أنفسهم ، فهاجموا مقر القنصلية الفرنسية ، لتفاجئهم أسلحة القناصة والرشاشات من أسطح ونوافذ البناية حاصدة المزيد من الضحايا في صفوف المغاربة ، حيث عجت الأزقة الضيقة للمدينة بالجثث ،لا أحدا يجرؤ على دفنها مع استمرار القصف العنيف من البوارج والمدمرات الحربية ، الذي يكاد يهدم المدينة فوق رؤوس أهلها .
قبائل الشاوية ، تداعى فرسانها للدفاع عن المدينة و أهلها ، محاولين إقتحام حاجز النار الذي فرضته البوارج الحربية حولها ، للوصول إلى مقر القنصلية الفرنسية ، وتمكنوا من ذلك رغم تكبدهم خسائر فادحة ، بل تمكنوا من فرض حصار على القنصلية ، ممتطين أسوارو أسطح البنايات المحيطة بها، ودخلوا في تبادل إطلاق نار كثيف مع الجنود الفرنسين المتحصنين بها .
الحصار المشدد الذي فرضه مقاتلوا الشاوية على القنصلية الفرنسية ، و إقترابهم منها بإستمرار ، جعل مخاوف الآجانب ،خاصة القناصل ترتفع من مصير دامي ينتظرهم ، إذا تمكن المقاتلون المغاربة من إختراق أسوار القنصلية ، و أمام عجز مدفعية البوارج عن صد هؤلاء تخوفا من إصابة القنصلية ، بعد إلتحام مواقع المغاربة والفرنسيين ، وبعد قصف عنيف إستمر لخمسة آيام كاملة ، أتى على الأخظر واليابس ، قرر الجنرال الفرنسي المسئول عن العملية إنزال قوة لفك الحصار ، تحت حماية المدفعية التي مشطت شاطئ المدينة ، حيث نزلت قوات تعدادها حوالي ثلاثمائة رجل ، شقت طريقها من الشاطئ حتى مقر القنصلية الفرنسية ، تحت ستار من نيران مدفعية البوارج ومدافع الميدان ، وتمكنت بصعوبة و بعد تكبد خسائر من دفع المقاتلين المغاربة خارج أسوار المدينة ، محكمة السيطرة عليها ، رغم أن مقاتلي قبائل الشاوية، لم يبتعدوا كثيرا وظلوا في محيط المدينة ، مؤكدين أنهم لم يستسلموا بعد .
بعد إحكام الفرنسيين السيطرة على المدينة ، طاردوا المقاتلين المغاربة في مخابئهم داخل المدينة ، مستعينين بخيانة بعض اليهود ، الذين كانوا يتعاملون معهم ، رغم ان اليهود المغاربة دفعوا على غرار إخوانهم المسلمين ضريبة الدم في هذا القصف الرهيب ، حيث طال حيهم الملاح كذلك على غرار كل أحياء المدينة ، وهدمت خلال القصف صومعة المسجد العتيق ، فيما إمتلئت أزقة المدينة بآلاف من الجثث ، أغلبها لنساء و أطفال ، تشوهت آبدانهم بسبب القصف ، وكذا بسبب التحلل السريع لها نتيجة حرارة الصيف اللاهبة ، الأمر الذي جعل رائحة موت خانقة ، تنتشر بالمدينة فإضطر الآهالي لدفن الضحايا في مقابر جماعية ، وكما إتفق وبسرعة تحت ضغط الجنود المغاربة للقائد الآمين الذي تعاون مع الفرنسيين ، و أظهر استسلامه لهم .
كل هذا الوضع المأسوي لم يزحزح كثيرا موقف قبائل الشاوية ، التي إستمرت تقاوم في محيط المدينة ، متمكنة من توقيف زحف القوة الفرنسية ، التي إحتمت بالخنادق والمدفعية وبعد ستة أشهر كاملة ، كان المقاتلون المغاربة لازالو صامدين ، رغم الفارق الرهيب في التسليح مابين الطرفين ، حتى أن الجنرال الفرنسي المسئول عن العملية العسكرية ، تظاهر بالمرض وقدم إستقالته لكي يتخلص من الجحيم الذي وجد نفسه في أتونه ، بينما عاودت قبائل الشاوية الهجوم مرة أخرى بتاريخ 18 من شهر غشت من سنة 1907 ، ورغم أنها تكبدت خسائر فادحة بسبب المدفعية ، إلا أنها واصلت القتال ، وكلما تحركت قوة فرنسية في محاولة لتوسيع ميدانها ، وجدت نفسها تحت رحمة كمين لمقاتلي الشاوية ، الوضع إستمر على هذه الشاكلة لأشهر رغم تمكن فرنسا من الضغط عللى السلطة المخزنية و السلطان ، ليكونوا بجانبها في تهدئة قبائل الشاوية ، وكذا لإظهار نفسها على أنها ليست قوة إحتلال ، بل تتحرك بتشاور و تعاون مع المخزن ، لكن الغطاء كان قد إنكشف عن أطماعها الإستعمارية ، خاصة و أنه وبالتزامن كانت القوات الفرنسية تدخل مدينة وجدة من الشرق ، ليبدأ العد العكسي لنهاية الإستقلال المغربي ، و بلغ من قوة وعنف القصف الدموي على الدار البيضاء من البوارج والمدمرات الفرنسية والإسبانية ، أن حصد أرواح حوالي 15 ألف شخص من ساكنة المدينة ، هذا التاريخ كان بداية لمرحلة جديدة من تاريخ المغرب المعاصر، و تلك حكاية أخرى نرويها .