بقلم محمد الغول
15 غشت 1912 ، ثلاثة أيام بعد تنازل السلطان المولى عبد الحفيظ عن العرش ، و بعد فرض فرنسا نظام الحماية على المغرب ، وبداية تحرك القوات الفرنسية لإحتلال باقي التراب المغربي ، الذي كانت قد بدأته فعلا بداية من سنة 1907 ، بإحتلال وجدة في الشرق و الدارالبيضاء في الغرب ، في خطة محكمة هدفها تسهيل إنتشار قواتها في باقي مناطق المغرب ، كذلك كانوا قد أعدوا للأمر بإغراء شبكة من القواد و جعلهم تابعين لهم ، لكن كل المخططات الفرنسية لم تأخد بعين الاعتبار المقاومة الشرسة التي أبدتها القبائل المغربية ، حيث لم تستسلم أي منطقة للقوات الفرنسية دون مقاومة ، حتى تلك المناطق التي كان قواد المخزن فيها عملاء للإستعمار الفرنسي ، في خظم الفوضى التي عمت المغرب بعد توقيع نظام الحماية وفرضها على السلطان بفاس ، ثلاثة أيام بعدها بتاريخ 15 من شهر غشت 1912 ، دخلت قوات قبائل سوس التي يقودها القائد الصوفي أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين ، الذي كان يتخذ من تزنيت مقرا له ، دخلت مراكش بقوات قاربت عشرة ألاف رجل ، لم تترك مجالا للإعتراض لعملاء فرنسا بمراكش ، كل من الباشا إدريس بن منو و الباشا الكلاوي ، اللذين لم يكونا يخفيان عمالتهما لفرنسا ، رغم أنهما كان يحكمان مراكش بإسم السلطان المولى عبد الحفيظ .
أحمد الهيبة وبعد أن إستتب له الأمر بمراكش أرسل إلى قواد مناطق الرحامنة وسوس والشياظمة يخيرهم بين الخضوع له وإعلاء كلمة الجهاد في وجه فرنسا ، أو أن يأيتيهم بقواته فإنظم اليه الكثير من قواد هذه المناطق ، بعضهم إعتقادا في الجهاد ومقاومة الإستعمار ، والبعض الآخر خوفا وخداعا في إنتظار وصول القوات الفرنسية ، كان ممن إنظم إليه بمراكش ، القائد الحاجي و القائد حيدة المنابهي و القائد عبد السلام البربوشي الرحماني والقائد التهامي المدني والعيادي و المتوكي والكندافي من قواد الشياظمة والرحامنة وسوس .
قوات أحمد الهيبة ، إتخذت عدتها من أجل مواجهة القوات الفرنسية المتقدمة من إتجاه الدارالبيضاء ، فبدأت بجمع ماتوفر لها من قطع السلاح و الفرسان ، متمكنة من توفير أربعة قطع مدفعية ألمانية الصنع من نوع كروب ، و لكثرة المتعاونين مع فرنسا من قواد المنطقة ، الذين كانوا يظهرون للقائد احمد الهيبة غير مايخفون ، كانت أخبار إستعداداته وعدته ، تصل تباعا لقيادة القوات الفرنسية وليوطي .
الفرنسيون وإعتمادا على القواد الخونة ، قاموا بمحاولات لإستمالة أحمد الهيبة إلى صفهم و إغرائه ، مطلقين مفاوضات معه بوساطة القائد العيادي بن الهاشمي ، المفاوضات بدأت على أساس إطلاق أحمد الهيبة سراح خمسة من الفرنسيين ، إعتقلهم عند دخوله مدينة مراكش ، في حين تمكن باقي الفرنسين الذين كانوا مقيمين بمراكش من الفرار و الإلتحاق بمدينة أسفي بمساعدة القواد من عملاء فرنسا بالمنطقة.
قوات أحمد الهيبة ، إعتقلت كل من القنصل ميغري و القائد بيرلي هانو و مدير القنصلية الفرنسية أليكو و الرقيب فيورين و طبيب يدعى غيشار ، حاول القائد العيادي إقناع أحمد الهيبة بإطلاق سراحهم ، وأغراه بمبلغ نصف مليون فرنك فرنسي ، لكن أحمد الهيبة رفض بإصرار ، مقررا الإبقاء على سجنهم رغم كل العروض والإغراءات الفرنسية .
ليوطي عندما عجز عن إستمالة أحمد الهيبة ، بدأ يعد العدة لمواجهته ، مستعينا لهذا الغرض بالقواد من أعيان المنطقة ، الذين يدينون بالولاء لفرنسا في مقابل الإبقاء على إمتيازاتهم ، و على رأسهم قائد الرحامنة العيادي بن الهاشمي و عيسى بن عمر قائد عبدة و المتوكي والكلاوي ، في حين جند ليوطي قوة يقودها الجنرال شارل مونجان ، قوامها حوالي 15 ألف رجل مسلحين بالبنادق والرشاشات و 12 مدفعا ، مدعومين بفرق من الجزائريين و السينغاليين ، إضافة الى رجال القواد المغاربة العملاء و بلغ عددهم حوالي 600 فارس بقيادة القايد التونسي.
بمجرد دخول هذه القوات أراضي الرحامنة ، حرك أحمد الهيبة قواته من مراكش لوقف زحفها ، فكانت أول مواجهة مابين الطرفين بتاريخ 16 من شهر غشت 1912 في منطقة أربعاء الصخور ، جس خلالها الطرفان نبض بعضهما البعض ، حيث كانت مناوشات خفيفة ، ثم تواجها مرة جديدة بعدها بأيام عند بئر أوهام بتاريخ 22 من شهر غشت 1912 ، حيث تكررت المناوشات مابين الطرفين طيلة أيام ، لكن لم تحدث مواجهات قوية ، حيث كان كل طرف ينسحب في إنتظار فرصة مناسبة للمعركة ، ومع طول مدة المناوشات ، ترك القائد أحمد الهيبة قيادة جيشه لعمه لغضف وشقيقه الأصغر مربيه ربو ، وقفل عائدا إلى مراكش متخوفا من إستغلال القواد من عملاء فرنسا غيابه الطويل عن المدينة للإنقلاب عليه وإحكام السيطرة عليها .
بعد مغادرة أحمد الهيبة إلى مراكش ، عسكر عمه لغضف القليل الخبرة العسكرية بقواته في منطقة منبسطة في سيدي بوعثمان على بعد عشرات الكيلومترات من مراكش ، فإنتبه الجنرال شارل مونجان إلى الخطأ الإستراتيجي الذي إرتكبته قوات أحمد الهيبة بإختيارها هذا المكان المكشوف لإقامة معسكرها ، فقرر أن الفرصة مواتية للإنقضاض عليها ، ليفاجأها بهجوم عنيف صباح يوم السادس من شهر شتنبر 1912 ، مقتربا بقواته حتى أصبح على بعد كيلومتر واحد ، ثم أمر بإطلاق النار بشكل كثيف ، مستعملا كل أنواع الأسلحة المتوفرة لديه من بنادق ورشاشات ومدافع ، ففعلت المفاجأة فعلها في صفوف قوات أحمد الهيبة ، ومع تساقط القتلى والجرحى دبت الفوضى و بدأ المقاتلون في الفرار حتى أن بعضهم لم يطلق رصاصة واحدة ، وغنم الفرنسيون مدافع المقاومين دون أن تتمكن من إطلاق قذيفة واحدة.
عدد القتلى في صفوف قوات أحمد الهيبة ، بلغ أزيد من 200 رجل ومئات من الجرحى في حين إستسلم مئات أخرون دون قتال ، و إنسحب البقية فارين إلى منطقة تيزنيت ، موقع رباط أحمد الهيبة و عائلته ، و سقط في الطريق العشرات قتلى بسبب تداعيات العطش والصيام فقد كانت المعركة في شهر رمضان .
القائد أحمد الهيبة عندما وصلته أخبار ماحدث ، وتوجه القوات الفرنسية ومعها قوات القواد إليه ، غادر سريعا مراكش برجاله إلى منطقة أكردوس الحصينة قرب تافراوت بالأطلس الصغير ، حيث احتمى بالقبائل الأمازيغية بالمنطقة ، مستجمعا قواته ورجاله مصرا على مواصلة قتال فرنسا ، التي إستمرت تطارده ورجاله في هذه المنطقة الجبلية الصعبة ، حوالي ثلاث سنوات دون أن تتمكن منه ، مستشعرة الخطر من إستمرار هذا الوضع طويلا ، خاصة مع تحول أكردوس إلى معقل للمقاومة ، تجذب المقاومين من كل أنحاء سوس والصحراء حتى شنقيط أي موريتانيا حاليا ، فلجأت فرنسا مرة أخرى إلى عملائها من القواد الخونة ، فتمكن أحد رجالهم من تسميم طعام القائد أحمد الهيبة ، ليفارق الحياة بأكردوس سنة 1919 ، لكن ذالك لم يوقف المقاومة فقد تولى بعده شقيقه الأصغر مربيه ربو القيادة ، لتستمر المعارك ضد الفرنسيين وتلك حكاية أخرى نرويها.