العُدْوان على الخصّة الأندلسية برياض الإنكليز
▪ د. رشيد العفاقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أرى ألف بانٍ لا يقوم لهادم ** فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم ؟
بثت بعض مواقع الأنترنت وصفحات الفايسبوك شريطا وصُوَرًا تُظهر أنّمعاول الهدم وصلت إلى رياض الإنكليز ونالت من سقوفه الخشبية والقرميدية، وأن الجماعة عاقدة النية على إكمال العدوان وإعدام هذه المعلمة مع التكفل بالمصاريف الكاملة للهدم وحتى لمراسيم الدفن. لقد ساءني ما شاهدته، لأن هذه المعلمة هي من المنشآت الأصيلة القليلة التي لا تزال تُشعرنا بمدينة طنجة القديمة ذات البُعْد الأندلسي والمتوسطي، فلم أجد ما أقول إلّا : “اللهم إنّ هذا منكر”.
ثم تذكرت أنني سَطّرت في كتابي “طنجة الأندلسية” فقرة معتبرة عن هذه المعلمة الجميلة، كان من الطبيعي أن تخرج إلى النور بعد طبع الكتاب لكن هذه المناسبة الأليمة فرضت عليّ أن أُخرج هذا النص من ذاك السفر،إذ هو شهادة ضد القُبْح، وصوت تأنيب لمهندسي الغطرسة والتخريب والإفساد ومن لف لفهم من الفاسدين الذين ما أن تقع أعينهم على المعالم الناطقة بالجَمال في طنجة حتى يأمروا بحرقها وإقبارها. لقد شوّهوا وَجْه المدينة وصَيّروها بلا ملامح ولا ميزة وهي التي كانت بالأمس القريب تلك المدينة الصغيرة الغافية في بياضها ونضارتها، المتألقة بزرقة بحرها وسمائها، ترفل في حلل المجد والرفعة والبهاء، ويُضْرب بها المثل عند الخاص والعام: فهي المتفردة دوما، والاستثنائية أبدا، السافرة وَجْهًا وقلبا، الثائرة والأليفة معا، المحافظة والمتحررة في الآن نفسه. ولكنها اليوم صارت عاطلة من كل زينة أو ميزة. وإليكم ما كتبته عن “رياض الإنكليز” في كتابي “طنجة الأندلسية”:
“وإذا خرجنا من بيوت طنجة البهية بالبلدة القديمة، وسرنا في طرقاتها الضيقة، تُظَلِّلُنَا أسوارها العتيقة التي تتدلى منها شجيرات الياسمين والقرنفل الناشرة لعطرها الفوّاح، فإنّنا سنجد الأندلس كامنة في كل زاوية من زوايا المدينة، ولعلّ الماشي فيها سيسمع الجدران وهي تحكي بالأندلسي أو عن الأندلس عندما يلوذ بجدار بيت عتيق أو بحوض سقاية ماء، أو خصّةمن خصّاتها ذات الميسم الأندلسي، وأودّ هُنَا أن أتكلّم عن واحدة منهن، وهي الخَصّة الكائنة برياض الإنكليز، فوق التلة المشرفة على البلدة القديمة، فقد صُمِّمَت على طراز الخصّات الأندلسية، أُنشئت في بداية العقد الثاني من القرن 20م، ويقوم حوضها المرمري على عمود من الرخام، نُقشت بدائرته كتابة أعجمية تفيد أنها أنشئت بعد وفاة السير ريجنالد ليستر (SirReginald Lister) تذكارا له. والسير ريجنالد المذكور عُيِّنَ مفوضا لبريطانيا بطنجة سنة 1908م ولبث في هذا المنصب إلى غاية وفاته في طنجة سنة 1912م. وتحتضن الخصّة مِن أعلاها قُبّةٌ مرفوعة على أربع أعمدة، جوانبها مثلثة، ومسقفة بألواح خشبية من الداخل، ومن الخارج بالقرميد الأخضر على شاكلة ما نراه في «صحن الريان» بقصر الحمراء بغرناطة، ولكنها اليوم مهملة كما أُهمل كل شيء جميل في هذه المدينة، وعلى الرغم من أنها فقدت الكثير من أصالتها وجمالها إلا أنّ بعض «حُرُوف الزَّيْن» لا تزال بادية على مُحَيّاهَا، من ذلك تلك الكتابة الموجودة على الشريط الخشبي للقُبة، فقد نُقش عليه هاذان البيتان من الشعر:
ألا قل لسكان وادي الحمى ** هنيئا لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا ** فنحن عِطاش وأنتم ورود
والبيتان من قطعة لشاعر قيرواني، ترجم له ياقوت الحموي في “معجم الأدباء” فقال:
“خلف بن أحمد القيرواني الشاعر. قال ابن رشيق في “الأنموذج”: شاعر مطبوع، تأدب بإفريقية ودخل مصر، وله شعر معروف جيد. مات بزويلهالمهدية سنة أربع عشرة وأربعمائة (414هـ)، ومن شعره:
هل الدهر يوما بليلي يجود ** وأيامنا باللوى هل تعود ؟
عهود تقضت وعيش مضى ** بنفسي ولله تلك العهود
ألا قل لسكان وادي الحمى ** هنيئا لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا ** فنحن عِطاش وأنتم ورود”.
وبعد ، ..
فإنه سيصير من العبث والسداجة أيضا أن نرفع صوت الشجب بعد اليوم بما قد يحصل للمعالم الأثرية القائمة بمدينة طنجة حتى الآن، لأنه منذ مدة ونحن نرى الصروح المعمارية الجميلة بمدينة طنجة وهي تهوي (بفعل فاعل) أمام أعيننا الواحدة تلو الأخرى .. لقد بحّ صوتنا ولم نعد نقو على الصراخ .. ولا نجد من قول نوجهه للمسؤول صاحب القرار بهذه المدينة إلا عبارة منسوجة على منوال كلام شاعر قديم: “إن لم تستح فاهدم ما شئت”.
