ديوان سعيد كوبريت “أرق من عناق ” .. لحظة تجل شعري حافلة بالكلام العذب والرقة والإتقان اللفظي
بقلم : عبد العزيز حيون
ديوان “أرق من عناق” لسعيد كوبريت ،المُستخْف بالإعلام والسارب بالشعر والملبس للجميل جمالا ، هو لحظة تجل شعري يتدفق فيها الكلام العذب وينساب برقة وإتقان وسلاسة ،وفي ذات الوقت يمتنع فيها الجوهر ويصعب فك رموزه .
قصائد ديوان “أرق من عناق” ،كما فهمتها للوهلة الأولى وأنا المحب للكلام المباشر ،هي “مرآة لبواطن ” الشاعر سعيد كوبريت ،الذي لم يكتف بالتعبير عن مشاعره وأفكاره الداخلية ،بل ترجم ما في نفسه من أحاسيس الفرح والفخر والانتماء والشوق و الحزن و الألم و الحب والعشق الى لغة شعرية رقيقة وغنية المعنى تنفذ الى أعماق متلقي متعطش تفيض مشاعره لكن لا سبيل له للبوح بها ل”قصر” اللسان و”شح” الإبداع والخيال وصعوبة توليد الأفكار العذبة الجميلة على طريقة سعيد كوبريت .
ديوان “أرق من عناق ” ،كما بدى لي هو ليس مجرد فيض متناغم وعارم من الأحاسيس والمشاعر الجياشة المبعثرة على رصيف قلب ،ولا هو مجرد فيضان عاطفي وسعي رومانسي للركون الى أحضان الحياة الجميلة ولاستشعار حنان وروعة الجمال ولا الهروب من الواقع المر ،وإنما هو أيضا رغبة سعيد كوبريت الجامحة للتحرر من القيود العقلانية من أجل التعبير عن مشاعر عميقة ووجدانية بمعاني موحية و رموز تعبيرية تصف ،بنباهة الشاعر المجرب ،الانفعالات العميقة التي تختلج في النفس الإنسانية و عاشت وتعيش الألم والحسرة و الغم والتلهف وشدة الندامة .
ديوان سعيد كوبريت ،العصي الدمع ، هو درس شعري بليغ في اللجوء الى الرمز و في استخدام الخيال في التعبير السخي عن العواطف والمشاعر الذاتية ،و كذا في ترويض وتطويع الكلام للهرب من الواقع إلى جوهر الحقائق المثالية وعالم المثل العاطفية الذي يتخيله الشاعر بعيدا عن العالم الحسي الظاهري ،وهو بذلك يكذب سوء ظن الفيلسوف أفلاطون بالشعر ويعتبره مجرد عالم الحسيات والخيالات أو الرسوم وليس إلا مجرد مقلّد للعالم المحسوس.
وقصائد ديوان سعيد كوبريت “أرق من عناق ” لا تؤذي الأذهان ،وفق الخطاب الأفلاطوني ، وإنما هي مصدر إلهام تهذب النفوس لتعشق وتحب بدون تكلف وتربيها كذلك على الصدق في التعبير عن المشاعر واستخدام الخيال والتصورات كوسيلة لفهم الواقع وليس للهروب منه ..وهو الشاعر المعطاء الذي أبدع في التنفيس عن مشاعر الشوق الداخلية و تقاسم المشاعر الخفية بشكل مؤثر وجميل في ذات الوقت مع تطلعه الى ترويض الحنين والوُجد والاشتياق والشوق والألم العميق والمُعقد .
برع ابن وزان الهادئة وعاشق مدينة الأحلام طنجة والشغوف بتطوان حين لجأ إلى الرموز للتعبير عن المعاني والأفكار المعقدة بشكل موجز وموحي ،وجادت قريحته ،بإيعاز من قلبه الذي سكنته “امرأة ” كما يقول هو نفسه ، بأساليب وألفاظ جعلت من الشاعر وبعده من القارئ أسير الحب بمسحة إنسانية تدمع العين وتزفر وتحزن القلب ،كيف لا و دموع المقلتين تُسجد حزن الفؤاد وتُوقد الأحشاء من نيرانها .
جمالية وتفرد كلام سعيد كوبريت المنظوم في قصائده الماتعة والفصيحة تكمن في أنه جمع ،بدراية وإحكام ،بين الجزالة والحلاوة وسخر التعابير الرقيقة في التعبير عن مشاعر الغرام و موضوعات الغزل والعشق ،قبل أن يوظف بدقة الخبير ونباهة الشاعر المجرب تعابيرا عهدناها في الرثاء والحكمة وسجايا الناس وصفاتهم الفطرية و الطباع المتأصلة في الإنسان بمسحة حزينة على شكل معزوفة الموسيقار البولوني فريدريك شوبان .
ديوان “أرق من عناق ” مكن المحب للكلم الجميل من اكتشاف تميز سعيد كوبريت في الكتابة برؤى نفسية عميقة وتصوير دقيق للعزلة العاطفية لشخصيته و لم يتستر في التعبير عن أفكاره علنا ليتقاسم حياته الداخلية والباطنية في مجتمع تتلوث أخلاقه وأذواقه في “حفلات تنكرية” يومية تجر الإنسان الى أعماق مياه ضحلة تستضيف كائنات حية لا من أولائك ولا من هؤلاء ..وكما المياه الضحلة تفتقر الى العمق المادي فإن الفكر الضحل يفتقر الى العمق المعنوي ويرمز الى نقص التدبر في الأفكار والأحكام ومحاولة إظهار الكذب حقيقة .
و يكمن تميز إبداع سعيد كوبريت في قصائده الأربعة “النوافذ لا تبصر ” و”الخطيئة وارفة” و”أثر العابر” ،في رأيي ،في أنه يتعمق في تعابير اللغة ومضامينها اللفظية لينزع عن الإنسان “الظلامية” و يشجب “الإبتذال ” الدائم ويزيل عنه الخوف في التعبير والتبادل والبوح ، وفي المقابل ليقوي فيه الخير والفضيلة و القوة النبيلة و المثالية العليا والعيش بضمير .
سعيد كوبريت في كل إصدار أدبي له منذ سنة 2002 (ديوان “الباحات” وكتاب “مواعيد مؤجلة”و ديوان”مثل عشق يلاحق الريح” وديوان “أسير إليك أسيرا لسرك” وديوان “لا أنتظر أحدا سواي”)، يتحفنا أولا بعناوين ذات مغازي خاصة تخلق صلة مع القارئ من الوهلة الأولى ،وثانيا بقصائد متخمة بنبرة متفجّرة ،يؤكد قدرته من خلالها على الاندفاع بحماس “معقلن” صوب “المثالي” والجمال والخلاص الروحي وهو يعيش في مجتمع يصبح ،للأسف،مع مرور الزمن ، “ألعوبة” لمشاعر غير صادقة لا تتغيّر إلا نحو الأدنى و لا تتلاشى فيه التناقضات بل تزداد تعقيدا و إصرارا على الحضور بيننا ..و في مجتمع أصبح فيه الحب الصادق صدفة ونزوة وليس سلوكا إنسانيا نبيلا ودائما وقناعة أخلاقية مستدامة .
يبدو سعيد كوبريت من خلال ديوانه “أرق من عناق”وكأنه يسعى كذلك الى صورة الكمال في المشاعر الإنسانية ،ويتوق الى تخليص قرائه من وطأة الحياة المملة الخالية من عذب الكلم الجميل والمشاعر الجياشة ويهم يخفون في ذواتهم قوى هائلة من الحب والإبداع والرضا والسعادة والإنسجام الراقي بين الذات واللاذات لا قبل لهم بالتعبير عنها .
فصاحة سعيد كوبريت تجلت في أجمل تعابيرها فيما يحمله للأم من مشاعر عذبة لامست الحب بكل تفاصيله في الماضي والحاضر ، ويُبين لنا سعيد كوبريت كيف تحب الكائن/الملك الذي تحت أقدامه الجنة بقدر ما يحب العصفور سماءه ..وفراق الأم وصبابته و غاية شوقه إليها يزيد الشاعر حزنا وينثر دموعه في عمق القلب ويصيبه بالأرق والجوى الذي يستقر في صدره على طول ..”عينٌ مسهدة وقلبٌ يخفق ..”.
ولم يستلهم سعيد كوبريت الأفكار من أي كان للحديث عن أرقه إلا من شاعر فصيح وبَلِيغ ومُفَوَّه من قيمة أبو الطيب المتنبي في قصيدة وجدانية مطلعها “أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ” ،و تُظهر الأبيات حال الشاعر في ليالي السهر الطويل، ووصفه لشدة الشوق والحب الذي يعاني من صدماته ،في الوقت الذي تحاشى الشعراء العرب القدامى الكتابة عن الأرق بشكل صريح كمرض، لكنهم تناولوا معاناته من خلال وصف ليالي السهر الطويلة، والحزن، والهموم، وفراق المحبوبة، واستعادة ذكريات الأطلال والديار التي تذكرهم بالحبيبة وفي أحيان أخرى بأهاليهم وعوائلهم وهواجسهم وهمومهم وحياتهم القاسية .
سعيد كوبريت تفنن أيضا في استخدام صور بلاغية متنوعة و تشبيهات و استعارات للتعبير عن مشاعر الشوق ،و وصف قسوة الحب بالثورة العاطفية العميقة والصبابة التي لا تهدأ شدتها و تفوق نار الغضى،كما شبه الحب أحيانا بالعطر وروائح المسك المستطاب والجذاب وأحيانا بالنار القوية التي لا تهدأ ولا تستكين وأحيانا أخرى بالدموع التي تتردد في عينيه السهيدتين ولا تنهمر.
المتعة الحسية في شعر سعيد كوبريت تستعير تعابيرها من ألفاظ وصور جريئة وغير مقيدة بقيود الحشمة الزائدة ومن الصور الخيالية الذكية ،وهو يستغل قدرته على المزج بين الألفاظ والمعاني بطريقة متناسبة ،مما يجعل من ديوان سعيد كوبريت “أرق من أرق” نشوة أدبية طاغية تقود ممن نال فرصة القراءة الى عمق جمالية الحياة والى رحلة وجدانية حبلى بالشعور الإنساني النبيل .