كثيرة هي المظاهر التي اختفت من طنجة تزامنا مع انتشار جائحة فيروس كرونا هذا العام، خصوصا تلك التي كانت تبرز في فصل الصيف، حيث جرت العادة أن تتحول أغلب الساحات وعلى قلتها بالمدينة خصوصا ساحة سوق برا إلى قبلة للمتسولين من مختلف المدن المغربية، كل يتسول على طريقته، يحدث أن يصادفك رجل تائه مع امرأة يدعي أنها والدته تعرضا لعملية سرقة طالبا منك يد المعونة للعودة إلى مسقط رأسه أو رجله على حد سواء، منهم من يفضل أن يفترش الأرض مستعرضا عاهته المرضية على أنظار المارة في مشهد يثير التعاطف مع المريض والتقزز من صورة ” كنكرينا” وهي تلتهم ساقه.
الساحة التاريخية سور “المعكازين” أو روضة ” للافريجة“(كما كانت تسمى حسب خريطة تعود لسنة 1906) تعود ملكيتها إلى الاسباني فرسكيطوالاشبيلي.
الساحة التي خلدها مجموعة من الكتاب في أعمالهم الروائية و الفنانين الأجانب بريشتهم منهم على سبيل الذكر لا الحصر الفنان الاسباني “مانويل كاستييرو“صارت قبل جائحة كرونا إلى فضاء للألعاب الإلكترونية، حيث يتناهى إلى مسامعك وأنت في الطوار المقابل لسور “المعكازين“ صراخ امرأة قادم من العالم الافتراضي تطلب النجدة خوفا من السقوط على وجها وهي تتلمس بيديها الفراغ بحثا عن شيء تتشبث به بالساحة أملا في النجاة من الحياة الافتراضية، أما ليلا يجتمع فيها كل من لفظته الحانات المجاورة وتتحول إلى فضاء لأرخص العاهرات بالمدينة، هذا دون ذكر هواة النشل الذين يجوبون الساحة طولا وعرضا، إضافة للمتشردين الذين يدغدغون أحلامهم بقطعة من “الدلوان” فوق الكراسي الصدئة طمعا في معانقة الفردوس الأوروبي.
رفع حالة الحجر الصحي، أعادت الفضاء التاريخي الذي يعد بمثابة نافذة طنجة على القارة الأوروبية إلى سابق عهدها، الحالة المزرية لساحة “الفارو” وما يجري فيها أثارت الكثير من ردود الأفعال الساخطة على مواقع التواصل الاجتماعي ، خصوصا مع اتخاذ الفضاء مؤخرا كقاعدة لنقش الحناء وبيع التين الهندي وهو الفضاء الذي قيل أنه سيتم إعادة تأهيله وربطه بميناء طنجة المدينة عبر مركبات معلقة في الفراغ ” تلي فريك” في إطار مشروع طنجة الكبرى.
وكعادة جريدة ” لاكرونييك” واكبت النقاش الدائر بالفضاء الأزرق على أرض الواقع مع مجموعة من الفاعلين والمهتمين بالشأن المحلي بالمدينة.
في هذا الصدد، صرح المؤرخ رشيد العفاقي لجريدة “لاكرونيك “أن سور “المعكازين” تاريخيا استثني البناء فيه، حفاظا عليه كنافذة مفتوحة تطل على البحر، وكان من بين مخططات الإدارة الدولية سنة 1939 ربط سور المعكازين بمجموعة من الحدائق بما فيها حومة اسبانيول إلى حدود البحر، غير أن قرار صدر بعدها نسخ كل المخططات مما سمح بظهور عمارات أسفل حدائق سورالمعكازين.
ما يقع اليوم بساحة “الفارو” حسب الدكتور رشيد العفاقي مع رفع حالة الحجر الصحي لا يختلف كثيرا عما يجري بالأسواق الأسبوعية المغربية من طقوس ومظاهر بدائية كسحت فضاء ساحة سور معكازين، طقوس تعود لقرون غابرة لا علاقة لها بثقافة المدينة التي ترتبط بالبحر الأبيض المتوسط وبشعوبها، داعيا الجهات المعنية إلى وضع حد لكل السلوكيات التي تشين الفضاءات التاريخية بالمدينة مشددا على إعادة الاعتبار لساحة سور المعكازين.
الفاعل الجمعوي “أبوياسر” عضو جمعية رابطة الدفاع عن حماية المستهلك، ندد بدوره بالحالة المزرية لفضاء سور المعكازين، هذا المكان تاريخيا حسب قوله كان خاليا من أي نشاط تجاري بل المكان المفضل لأخذ الصور التذكارية لساكنة المدينة وزوارها، خصوصا وأنه يتوفر على منظر بانوراميجذاب يطل على الضفة الأخرى وعلى ميناء المدينة الذي تربطه علاقة حميمة بساكنة المدينة، يضيف أبو ياسر أن سور “المعكازين” متنفس وفضاء لأخذ الطاقة الإيجابية عبر الإطلالة المتميزة على البحر التي لا تتوفر إلا في سور المعكازين، ولم يسجل أبدا أن مارس ساكنة المدينة أي نشاط كيف ما كان نوعه بساحته ، بل حافظت الساكنة على خصوصيته، غير أن ما لوحظ في السنوات الأخيرة من هجوم ممنهج لبعض الباعة المتجولين وكذلك لبعض النسوة اللواتي يمتهن عملية نقش الحناء عبر افتراش أرضيته في محاولة فرض أمر مشابه أو إسقاط لنفس الممارسات والعقليات بساحة جامع الفنابمراكش أصبح أمرا مزعجا للساكنة ولتاريخ المدينة الذي يجب الحفاظ عليه خصوصا وأن الفضاء المستهدف يعد جزءا من ذاكرة المدينة وساكنتها، ولها ارتباط وجداني وروحي مع سور المعكازين، لذا يقول الفاعل الجمعوي أبو ياسر وجب العمل على احترام ماضي وحاضر الأمكنة التاريخية واستشراف المستقبل انطلاقا من التراكم الوجداني والموروث الثقافي الذي يعد مساهما أساسيا في التنمية المحلية، فسور المعكازين هو جزء من تاريخ المدينة ومساهم في تنشيط السياحة الداخلية إذ يعتبر محجا ومزارا لكل زوار المدينة، ومن هذا المنطلق علينا الحفاظ عليه كما كان سابقا وإخلائه من أي نشاط كيف ما كان نوعه وجعله فضاءا مفتوحا في وجه الجميع.
محمد الحراق وهو مرشد سياحي، تأسف في حديثه مع جريدة “لاكرونيك ” إلى الوضعية المزرية التي آلت إليها ساحة “الفارو” وهي الساحة التي يمكن أن تكون كملتقى عالمي بحكم موقعها الاستثنائي لو تم استغلالها وحسن ترويجها سياحيا خصوصا في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، غير أن ما يلفت النظر ويشين الفضاء حسب قوله هو وجود مجموعة من النسوة يمتهن النقش ، وهي ظاهرة نجدها أو بالأحرى ابتليت بها أهم المواقع السياحية في المغرب مثل رأس الماء بالشاون وعين اسردون وطبعا ساحة جامع الفنا، وأخيرا ابتلينا نحن بهذه الظاهرة في أهم إطلالة سياحية بالمدينة على الإطلاق وهي ساحة “سور المعكازين“مما أفقدها خصوصيتها وخصوصية العمارات السكنية والمقاهي التاريخية المجاورة لها مثل مقهى باريس.
رئيس جمعية المرشدين السياحيين عبد اللطيف شبعة، وكفاعل في القطاع السياحي، اعتبر نقش الحناء بهذا الموقع البانورامي المطل على المحيط الأطلسي ومضيق جبل طارق وطريفة وكذا قصبة طنجة، يعد بدعة مستحدثة بالمدينة ومزاولتها في هذه الساحة يساهم في طمس الحمولة التاريخية لأشهر فضاء بطنجة، مضيفا أن من عادات الأسر العريقة بطنجة نقش الحناء في أوقات ومناسبات معينة كالعقيقة أو الزواج، غير أن نقشها في الهواء الطلق تبقى ممارسة “دخيلة” على تقاليد وعادات ساكنة المدينة، فما بالك في استغلال فضاء سياحي مميز في مدينة لها خصوصيتها، فما يجري بساحة “الفارو” والتي لها شراكة توأمة مع مدينة الفارو البرتغالية تعتبر مهزلة، لذا وجب على السلطات تنقية الفضاء من كل ما يعود سلبا على تطوير الفضاء والترويج للمدينة كوجهة سياحية خصوصا أن الفضاء سيكون مرتبط بميناء طنجة عبر” تليفريك“.