أمام التهديد المهول لفيروس كورونا على سكان العالم، وانتشاره السريع في صفوف بني البشر انطلاقا من مدينة ووهان الصينية نهاية سنة 2019، وانهيار النظم الصحية في كثير من الدول المتقدمة التي ظن البعض أنها محصنة من الأمراض والأوبئة، وسقوط الملايين من الوفيات في عالم متقدم، وإعلان عجز الحكومات على توفير الحماية لمواطنيها، وكلنا يتذكرإيطاليا التي سقط فيها المرضى صرعى بِرَدهات مستشفياتها بعدما امتلأت طاقتها الاستعابية عن آخرها، فانطلقت التوجسات بأن نهاية العالم قد أَزفت وأن الإنسان سائر إلى حتفه لا محالة.
في تلك الأجواء المأساوية التي أرغمت الجميع على المكوث في البيوت ليل نهار، وحُرم المغاربة كبقية شعوب العالم من ممارسة حياتهم بطريقة طبيعية، فلا خروج إلا بإذن، ولا تسوق إلا بورقة تحمل خاتم السلطات المحلية، ولا سفر لحضور جنازة قريب إلا بعد ترخيص كُتب عليه ساعة السفر وساعة العودة وسبب مغادرة المدينة، وتوقفت صلاة الجمعة والتراويح، ومُنع البحر في عز فصل الصيف، وكم من إنسان وجد نفسه حبيس دولة أو مدينة ذهب لقضاء غرض خفيف فيها فامتدت إقامته لشهور وهو يمني النفس بالعودة إلى أهله وأحبائه.
وتساءل الجميع هل من مَخرج لهذه الكارثة غير المسبوقة؟ أين هو التقدم العلمي والطبي الذي سمعنا بأن الإنسانية قطعت فيه أشواطا كبيرة؟ وأين أصحاب الوزرات البيضاء الذين ملأوا المختبرات الكبرى؟
لم يتأخر الجواب، فأسرعت شركات الأدوية العالمية إلى إنتاج لقاحات تُوقف زحف هذا الوحش المُدمر، فوزعت منه الملايين عبر العالم وتنافست الدول في اقتنائه، وتحولت الميزانيات لخدمة فصل واحد ووحيد، وهو جلب الدواء في أسرع وقت ممكن!
إن غالبية دول العالم تصرفت بمسؤولية كبيرة تجاه مواطنيها، ورأينا كيف فضل المغرب حياة المغاربة على الصناعة والزراعة والتجارة، فأمر الجميع بلزوم بيته، ووفر الحاجيات الضرورية لدى المتاجر الكبرى والصغرى،واخترع الكمامات وسط ذهول بعض المغاربة أنفسهم،وبدد المخاوف التي كانت تذهب إلى أن المجاعة ستصيبنا إذا أغلقت الشركات والمصانع أبوابها، لكننا تغلبنا على كل ذلك، وانتشر التطعيم في المستوصفات، وتصدت لجنة علمية لتدبير الجائحة، فكان دورها مراقبة اللقاحات وإدخالها للتراب الوطني والإشراف على توزيعها بمساعدة الأجهزة الحكومية، واتخاذ القرار فيما يخص ساعة الدخول أو الخروج، وكنّا حينها ننتظر بيانات تلك اللجنة بلهفة كبيرة لعلها تحمل مبشرات جديدة.
أصبحت شوارع مدينة طنجة فارغة وموحشة، كنتُ حينها أرافق والدي ـ رحمه الله ـ مرتين في الأسبوع لحصص الدياليز، وعند خروجه في الساعة السادسة والنصف مساء، أجد أن المدينة قد أصبحت مهجورة إلا من رجال الأمن الذين يضعون الحواجز الحديدية بين الشوارع والأزقة، لا يُسمح لي بالمرور منها إلا بعدما أُشهر رخصتي الشخصية ورخصة أخرى لوالدي تثبت علاجه. فعلا كان الجو مخيفا، جميع المحلات موصدة، المقاهي والمطاعم التي تعج عادة بالحركة أصابها شلل تام، وكأن القيامة قد قامت ورحل الجميع عند بارئهم.
ظهر لقاح أسترازينيكا الذي تلقحتُ به مرتين، وهو بريطاني الجنسية، طوّرته شركة الدواء بمساعدة جامعة أوكسفورد العريقة، وانتشر عبر العالم كأحد اللقاحات التي ستنقذ البشرية من كوفيد-19، واعتمده المغرب ليزور أجساد المغاربة بمعية لقاحات أخرى. لكننا تفاجأنا مؤخرا باعتراف شركة أسترازينيكا لأول مرة أمام القضاء البريطاني بأن لقاحها المضاد لفيروس كورونا يمكن أن يتسبب في آثار جانبية مميتة بسبب تجلط الدم مع متلازمة نقص الصفيحات، يأتي هذا الاعتراف بعدما تم رفع دعوى قضائية جماعية ضد الشركة في بريطانيا، وتم سحب اللقاح من الأسواق، وفي 7 ماي الماضي أصدرت وكالة الأدوية الأوروبية إشعارا يفيد بأن لقاح أسترازينيكالم يعد مصرحا باستخدامه، وقد سبقت بريطانيا بإجراء مماثل لمّا توقفت في خريف 2021 عن استعمال أسترازينيكا واستبدلته بلقاح فايزر. ما الذي يدفع دولة عظمى مثل بريطانيا بالتخلي طواعية عن لقاحها وشراء لقاح دولة أخرى؟
في المغرب رفعت أستاذة جامعية أصيبت بشلل في الوجه والأطراف السفلى دعوى قضائية بالمحكمة الإدارية، التي حكمت لها يوم 09 فبراير 2024 بـتعويض قدره 250.000 درهم، الذي يلزم الدولة المغربية في شخص رئيس حكومتها ووزير صحتها بأداء التعويض السالف الذكر للسيدة المتضررة، لأن الدولة مسؤولة عن سلامة مواطنيها، ومسؤولة عن منح التأشيرة للقاحات والأدوية.
هل كانت سرعة إخراج اللقاح أمام ضغط الوباء سببا في عدم التأكد الكامل من صلاحيته وفعاليته، فلأول مرة يتم إنتاج لقاح في أقل من سنة بتمويل من الدول الكبرى، دون المرور من جميع المراحل العلمية والمخبرية للتأكد منه، وهو الذي حصل على موافقة وكالة الأدوية الأوروبية لأول مرة في يناير 2021.
المواطن المغربي البسيط الذي تطعم بأسترازينيكا يجد نفسه محاصرا بسيل من الأسئلة التي تتردد عليه، من يتحمل مسؤولية الأضرار الصحية التي قد تصيبه بسبب اللقاح الذي ألزمته دولته بالتطعيم به؟ وقد تم إجبارالمواطنين بالتلقيح وإلا سيحرمون من دخول الإدارات والمؤسسات العمومية لقضاء حوائجهم، نتذكر هنا معركة المحامين التي امتدت لأسابيع والذين دفعوا بعدم قانونية التطعيم عنوة بأسرازينيكا وغيره، وها هي الشركة تعترف في وثائق رسمية باحتمال تسبب لقاحها في الجلطات الدماغية..
أليست شركات الأدوية العالمية الكبرى مسؤولة عن إغراق الأسواق باللقاحات التي ملأت خزائنها بملايير الدولارات؟ هل كان تصرفها إنسانيا لما سارعت لإيجاد لقاح كورونا أم أن الدافع الأساسي لفعل ذلك هو جني الأرباح المادية؟ ومن سيعوض المواطنين المتضررين، هل هي الحكومات المحلية أم الشركات الكبرى؟
تناسلت الدعاوى القضائية عبر دول العالم، ولم تقتصر فقط على لقاح أسترازينيكا بل امتدت إلى غيره، فالقضاء البلجيكي فتح تحقيقات حول لقاح فايزر الأمريكي، والمحاكم الألمانية تتقاطر عليها شكايات المتضررين من اللقاح.
أصعب ما يمكن أن يصاب به الإنسان هو تسرب الشك إليه في أعز شيء يملكه ألا وهو صحته وسلامته البدنية، لا يمكن للتعويضات المالية مهما بلغ قدرها أن ترجع حياة إنسان كان اللقاح سببا في وفاته.