إبراهيم مراكشي يكتب :”أزمة كورونا… أزمة ثقة أولا”
أعترف في البداية أني احترت في اختيار عنوان لهذه “المقالة”. السبب لنا سيتضح في القادم من الأفكار…
لأول مرة في تاريخ المغرب استطاعت أزمة أن تجمع بين ثناياها جميع مشاكل المغرب الكثيرة والمتشعبة، وتلخصها في كلمة واحدة: “كورونا”. بمعنى آخر، أن بحل أزمة كوفيد-19 وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية سيحل المغرب معظم مشاكله. فيروس كورونا لعنة ونقمة، لكنه قد يتحول إلى نعمة تساعدنا على التخلص من مشاكل البلاد العديدة في قطاع الصحة والتعليم، في البنى التحتية، في الاقتصاد، إلخ. غير أن نجاحنا رهينبتعاوننا جميعا. لكن كيف السبيل لإعادة بناء جسور الثقةبين الدولة والمواطن بعد أن تداعت أسواها وأوشكت على الانهيار؟
تفشي وباء كوفيد-19 بمدينة البوغاز أخذ منحى تصاعدي في الآونة الأخيرة، في ظل عرض صحي عاجزوغير مؤهل عن استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين؛ وهذه خاصية مشتركة بين جميع مدن المغرب وقراه. لقد استنزف العرض الصحي المتوفر، واستهلك في ظرف وجيز. فكان من الطبيعي أن تتدهور ظروف استقبال المواطنين، وأن يحصل تأخر في الاستجابة لطلبات إجراء الفحوصات والكشف عن الفيروس، وغيرها من الإجراءات الطبية… المغرب في هذا الإطار يدفع ثمن أخطاء الماضي القريب والبعيد في قطاعه الصحي.
الأرقام المسجلة يوميا تؤكد ذلك، وهي في علم الجميع، بل أصبحت مدينة طنجة تسجل لوحدها نصف أعداد المصابين وطنيا. إن استمرت المدينة تسجل أعداد المصابين بهذه الوتيرة يوميا، فمن المؤكد أن الوضع سيخرج عن نطاق السيطرة في ظرف بضعة أسابيع، مع ما سينجم عن ذلك من مشاكل لا قبل للمدينة بها. إن مدينة طنجة تعد مختبرا لما قد يحدث في مدن أخرى. فإذا كانت السلطات المحلية قد فشلت في السيطرة على انتشار الوباء لأسباب متعددة مترابطة، ماذا سيقع لو أصبح للمغرب عشر مدن أو أكثر على شاكلة مدينة طنجة؟ السؤال في حد ذاته مرعب، تقشعر له الأبدان، لأن إمكانيات المغرب لا تسمح له بمواجهة سيناريو مماثل.
السلطات العمومية المحلية تحاول جاهدة إيجاد الحلول للمشاكل اليومية الناجمة عن جائحة تتجاوز حدود امكانياتها وتجربتها في تدبير الشأن العام المحلي، في المقابل، تجد أمامها مواطن فقد الثقة فيها -نتيجة أخطاء الماضي-، لذلك فهو في عمومه غير عابئ، يستهينبخطورة الوضع. فما أكثر من صادفت يقول بأن لا وجود للفيروس وأنه مؤامرة ماسونية! إن الاستهتار بإجراءات السلامة والوقاية ما هي سوى طريقة عند البعض للتعبير عن امتعاضه من الوضع ككل؛ فهناك من يريد أن تفتح له الشواطئ وأن يسمج له بارتيادها، وأن يسافر دون قيد أو شرط لقضاء عطلة عيد الأضحى مع عائلته، حتى وإن أدى ذلك لانتقال العدوى وتفشيها. هل لهذا المواطن رغبات انتحارية دفينة، طفت على السطح مع هذه الجائحة؟
إن قول هذا الكلام لا يعني أننا نضع المسؤولية في سلة المواطن وحده، بل على العكس الجميع يتقاسم المسؤولية عما آل إليه الوضع بمدينة طنجة: مواطنين، وفاعلين اقتصاديين ومسؤولين عموميين. فمن جهة، ليس الوقت مناسبا لتبادل الاتهامات، وإنما للبحث حول الحلول الممكنة، والتشاور حولها. وهذه الكلمة الأخيرة نضع تحتها خطا أحمر؛ ومن جهة أخرى، ينبغي الإقرار على أنه في أحيان كثيرة ارتجلت السلطات العمومية المحلية باتخاذها لقرارات متناقضة في اليوم الواحد، وفي أحيان أخرى أضاعت الكثير من الوقت منتظرة أن يحسم المركز في قرار له صبغة محلية صرفة؛ أما عذر كونها تعالج أزمة لا خبرة لها فيها، أصبح اليوم غير مقبول بالنظر لكون فيروس كوفيد-19 طال مكوثه معنا، حتى صار على وشك أن يتمغرب!
وفي مطلق الأحوال أي قرار تم اتخاذه للحد من تفشي الوباء أفرغ من مضمونه ومن جدواه نتيجة عدم تجاوب فئة من المواطنين معه. في حين، إذا لم تكن العلاقة تكاملية تعاونية، مبنية على الثقة بين المسؤول العمومي والفاعل الاقتصادي والمواطن لا يمكن لمدينة طنجة ولا للمغرب أن يخرجا سالمين من هذه الجائحة. وهذه الثقة هي العنصر الغائب. التوجه السائد لدى عموم المواطنين أن أي قرار يتخذ على الصعيد المحلي أو الوطني ينظر له بعين الشك والريبة. تجاوب المواطن هي القطعة الرئيسية الغائبة عن هذه المعادلة، وهذا ما اتضح لنا بجلاء في الآونة الأخيرة.
للأسف غيبت المقاربة التشاركية، والحلول التي اختبرها المسؤولين على أرض الواقع كعزل بعض المناطق، أو إغلاقها خلال الليل، ووضع المتاريس والحواجز للفصل بين البؤر، إلخ. باءت جميعها بالفشل نتيجة عدم تجاوب المواطن معها لعوامل متعددة، البعض منها لها ارتباط بعوامل اقتصادية، والبعض بعوامل اجتماعية، فيما البعض الآخر بعوامل سلوكية. والأكيد على أنه عند عتبة كل حل اتخذ ظلت المدينة تعاني أكثر. ليس فقط السلطات العمومية المحلية هي التي في حيرة، وإنما الدولة بأسرها في حيرة، بل في ورطة، فلا هي استطاعت أن تحد من انتشار الوباء، ولا من تنشيط الدورة الاقتصادية.
آخر هذه القرارات التي لم يتجاوب معها المعنيون بها، القرار الذي اتخذته الحكومة بمنع التنقل انطلاقا أو من أو في اتجاه أبرز المدن خلال عطلة عيد الأضحى: طنجة، تطوان، فاس، مكناس، الدار البيضاء، برشيد، سطات ومراكش. حدد موعد القرار وأعلن عنه قبل يوم من موعد تنفيذه، فشهد ذلك اليوم نزول كثيف في محطات المسافرين ومحطات القطار للراغبين في قضاء عطلة العيد مع عائلاتهم، وإنزال كثيف للسيارات على شيكات الطرق الوطنية والسيارة، ضاقت بها الحركة وارتفعت حوادث السير، فنتج عن العديد من هذه الحوادث تشابك بالأيدي بين السائقين… في هذا الإطار، لا يكن القول سوى أن المغربي يحفر قبره بيده، لذلك نتوقع أن يشهد عدد الإصابات موجة ارتفاع أخرى بعد انقضاء عطلة العيد.
الحكومة في تخبط كبير أمام تزايد أعداد المصابين، ولكنها في نفس الوقت لها مواطن صعب المراس، يصعب عليها الأمور. صحيح أنه صبور صبر النبي أيوب-وللصبر حدود-، لكنه حاد الطباع. وهنا نتساءل ما الذي سيحدث له لو التزم هذا الأخير بهذا القرار وبمقتضياته، ولم يقضي عطلة العيد لهذه السنة في مدينته الأصلية؟الأكيد أنها لن تكون بالنسبة له نهاية العالم، بقدر ما هي تضحية بسيطة من جانبه خدمة للصحة العامة.
إن الحكومة عندما اتخذت هذا القرار فلصالح من خرقهأولا، وحماية لأسرته البعيدة ثانيا، وحماية للصالح العام ثالثا. هذا مع العلم أن السلطات العمومية تتواصل معه بنصف الحقيقة -على الأقل في مدينة طنجة التي نعرفها-؛ ويعلم الله أي زلزال بشري قد يقع لو علم هذا المواطن، الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب،بالحقيقة كاملة غير مجزئة.
صحيح أن مدننا تحولت إلى سجن كبير، لكنها لطالما كانت كذلك، فقد الأبصار هي التي كانت لا تبصر هذه الحقيقة، واليوم باتت واضحة أكثر من أي وقت مضى مع هذه الجائحة؛ وصحيح أيضا أن المقاربة التشاركية هي الغائب الأكبر عن تدبير هذا الملف على الصعيدين الوطني والمحلي، لكن من زاوية أخرى، كيف يمكن التواصل مع من يغادر المدينة، كالهارب من السجن، يضع الخطط للتمويه والانفلات من الحواجز الأمنية، قصد الخروج خلسة ليلا مشيا على الأقدام لمسافات طويلة، قبل أن يجد سيارة للنقل السري في المكان المتفق عليه؟ أيعقل هذا؟ أي تهور وأية عبقرية في آن واحد يملك هذا المواطن؟ هذا بالنسبة للمواطن ضيق الحال، فكيف مع من هو ميسور نسبيا ويملك سيارة فردية؟ هذا الأخير تسببليلة 27 يوليوز، بتهوره واندفاعه، بشل الطرقات الوطنية لساعات، وفي حوادث سير مميتة. كيف يمكن التواصل مع هذه الفئة من المواطنين؟ وبأية لغة؟ إذا تأملنا هذه العينة سنجدها تضم شرائح متناقضة، فيها الفقير والمتوسط الحال، المتعلم والأمي، المثقف والجاهل، وهنا المصيبة! كيف السبيل لإقناعها بأن هذه القرارات تصب في مصلحتها وفي مصلحة الوطن؟
لطالما كانت شخصية المغربي عبر العصور مندفعة، إلا أنه مع انتقاله من القرية الصغيرة إلى المدينة الموحشة، تطورت فردانيته كخط دفاع أمامي يقي بها نفسه، فصارأنانيا لا يفكر إلا في نفسه، غير مبال بتبعات تصرفاته على سلامة الغير. قطعا الكلام هنا لا يسري على فئة من المواطنين المنضبطة والملتزمة باحترام تعليمات وتوجيهات السلطات العمومية، غير أن التجول في المدينة يتضح أنشريحة واسعة من المواطنين عكس ذلك تماما؛ بل نجد ضمن هذه الأخيرة، من له رغبات “كاميكازية”، يتملكهاليأس والإحباط الناجم عن قساوة شظف العيش. هذه الفئة الأخيرة نجدها تملأ الأزقة والأحياء الشعبية ليلا في تجمعات متفرقة هنا وهناك… وعلى الجملة، المغرب يدفعالآن ثمن تجهيله لشريحة واسعة من أبناءه، والتشجيع على شيوع ثقافة التفاهة في وسطها. المغرب يدفع ثمن تفقير فقراءه واثراء أغنياءه.
اعتقد أنه لو كانت الحكومة تدرك جيدا أن قول الحقيقة ستدفع هذا المواطن إلى الالتزام والانصياع للتعليمات الطوارئ الصحية لأقدمت على ذلك، إلا أنها تدرك جيدا أن ذلك لن يؤدي سوى إلى تفشي الذعر، مع ما يترتب عن ذلك من صعوبة ضبط المجال وتحركات ساكنته، واحتمال انفلاته أمنيا. لقد شكلت ليلة 27 يوليوز مثالا صغيرا لم ستؤول إليه الأمور في حالة خروج الوباء عن نطاق السيطرة. ونحن نعلم طبيعة شخصية المواطن المغربي،وكيف يتصرف في مثل هذه الحالات. لكن قبل ذلك، فإن قول الحكومة للحقيقة كاملة إدانة لها أولا وقبل أي شيء آخر، ودليلا على فشلها في تبير هذه الجائحة.
إن مؤشرات هذا الفشل بدأت تطفو على سطح الأحداث كل يوم أكثر، وما خفي أعظم! لكن من باب الانصاف، ينبغي الإقرار أن بوادر هذا الفشل لا تعود مسؤوليته للحكومة بمفردها، وهذا ما دلت عليه بوضوح أحداث ليلة 27 يوليوز، وقد صدق من وصفها بليلة “الهروب الكبير”. هو وصف بليغ، لأن المغربي يجيد الهروب، فهو يهرب من السياسة ولا يتردد في انتقادساستها، يهرب من فشله، ويلوم الآخرين عليه؛ يهرب من عيوبه ويرفض الاعتراف بها، بل ويقذف بها الآخرين. إن هذه الأزمة أبرزت أجمل ما فينا من القيم، لكن أيضا كشفت عن أسوء عيوبنا. ليس المغرب فقط هو بلد متناقضات مفارقات التنمية، بل المغربي في حد ذاته، من منظور سلوكي، هو حقل ألغام من المتناقضات أيضا. فالمغربي على دين بلده!
مشاكل المغرب كثيرة، ليبقى السؤال العويص من أين نبدأ عملية الإصلاح؟ ألا تشكل هذه الجائحة هبة من السماء لإعادة النظر في المجتمع وبناءه على أسس متينة؟ أين هم علماء الاجتماع والأخلاق والدين؟ هذا مجالكم…