مستقبل الاتحاد الأوروبي في ظل أزماته الأخيرة
سهيل أقيور
لا يخفى على أحد الدور الاقتصادي والأمني الذي اضطلع به الاتحاد الأوروبي منذ نشأته، وخصوصا في مرحلة التسعينات، الأمر الذي وضعه كلاعب بارز ورئيس في مجال التعاون الدولي والعلاقات الدولية. فقد منح هذا التكتل مواطنيه وكل زائريه وكذا البضائع والسلع حرية التنقل بين كل دوله بكل سهولة ويسر، إضافة إلى اسهامه في حل النزاعات الدولية بكافة أشكالها والعمل على التنمية المستدامة والسلم الدولي والأمن البيئي العالمي. كل هذا جعل الاتحاد الأوروبي يتبوأ مرتبة متقدمة على السلم الاقتصادي العالمي؛ فحسب موقع “ذا بالانس” The Balance، احتل الاتحاد الأوروبي المرتبة الثانية عالميا على السلم الاقتصادي العالمي بناتج بلغ 22 ترليون دولار بعد الصين وقبل الولايات المتحدة الأمريكية التي احتلت المرتبة الثالثة. فقوة هذا الاتحاد لم تتزعع كثيرا رغم جملة الأزمات والمشاكل التي عانى منها منذ توقيع معاهدة ماستريخت عام 1992. وهو ما دفع منظري التعاون الدولي إلى اعتباره نموذجا يحتذى في التعاون بين الدول. وهذا ما شدد عليه كل من كرين آرتس وآننا ديكسن في مقدمة لكتاب لهما حول الاتحاد الأوروبي ودوره في مجال التعاون الدولي؛ فقد أوضحتا أن للاتحاد سياسة ترمي إلى توطيد العلاقات مع دول الجنوب بغية تعزيز الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتحسين الرعاية الإجتماعية في تلك البلدان.
ولا شك أن الاتحاد يعيش وضعا داخليا ممتازا، وإلا فلماذا سيطمح إلى الانفتاح على الدول الأقل تطورا ومساعدتها على النهوض على عدة أصعدة؟ قد يبدو الأمر سارا لمن يحبون الاتحاد الأوروبي عند سماع هذه المعطيات، لكن هذا ليس إلا جزءا من الصورة، فالصورة لم تكتمل بعد. تعالوا معي لنلقي نظرة على هذا التكتل من نواح أخرى، خصوصا في ظل التطورات السياسية الجديدة على الساحة الدولية. فل نبدأ من اليونان، هذا البلد الذي انضم إلى هذا الاتحاد عام 1981. انلعت أزمة اليونان سنة 2008 بسبب عدم استجابة اليونان لمعايير ماستريخت المتعلقة بالعملة والتي صرحت اليونان أنها لم تكن صادقة بشأنها في بادئ الأمر وذلك لتعتمد اليورو كعملة رسمية لها. فما كان لدول الاتحاد إلا المسارعة من أجل إنقاذ اقتصاد اليونان من الغرق، فقدمت لها قروضا على عدة دفعات مقابل فرض إجراءات التقشف عليها والتي طالت نظامي التقاعد والضرائب. وفي المقابل، فجرت إجراءات التقشف هذه سخطا شعبيا واسعا لما لها من آثار سلبية على الاقتصاد وعلى القدرة الشرائية للمواطن، وهو ما أدخل اليونان في مطبات الشد والجذب مع شعبها من جهة ومع الدائنين من جهة أخرى. كل هذا وضع الاتحاد الأوروبي في موضع لا يحسد عليه كون أحد أعضاءه يعاني من تراجع الاقتصادي وتراجع القدرة الشرائية لمواطنين ينتمون إليه. نعم لقد تخطت اليونان هذه الأزمة بعد سنوات، لكنها لا تزال تعاني من مخلفاتها لحد الآن من بيروقراطية وتهرب ضريبي وغير ذلك من المشاكل. فأزمة اليونان بلا شك تؤرق مضجع البيت الأوروبي خشية اندلاع أزمة مماثلة عند أحد أعضاءه الآخرين.
ثانيا، وفي ظل النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط والمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها بلدان العالم الثالث، بدأ الاتحاد الأوروبي يئن تحت وطأة الضغط الذي باتت تضعه عليه موجات النزوح من تلك البلدان. فهؤلاء اللاجئون يشكلون ضغطا حقيقيا على الاقتصاد الأوروبي الذي يفرون إليه طلبا للعيش الكريم، لكن الاتحاد لم يفلح في احتواء أعداد اللاجئين المتزايدة مما دفعه لطلب تركيا أن تغلق الباب الجنوبي لأوروبا مقابل مساعدة مادية يقدمها لها سنويا ليعينها على تدبر أمور اللاجئين على حدودها الجنوبية. ومقابل هذا، تشهد أوروبا صعود اليمين المتطرف في أكثر من بلد، على غرار بريطانيا وفرنسا، الذي هو، حسب ما أفاد البروفيسور والأكاديمي كامل حواش لقناة الجزيرة، نتيجة لتجاهل الاتحاد لتدفق اللاجئين وما يصحب ذلك من مشاكل قد يتسبب فيها هؤلاء اللاجئون. فمن الطبيعي ارتفاع معدلات الكراهية في أوروبا ضد اللاجئين والمهاجرين بصفة عامة، ولابد من بروز خطاب جديد مرافق لصعود اليمين المتطرف، هذا الخطاب الذي بدأ يصور المهاجرين وخاصة اللاجئين على أنهم تهديد وجودي للأوروبيين وللقيم الأوروبية والذي يدعو إلى اتخاد إجراءات احترازية ضدهم. وبلا شك، يشكل هذا التغير تحولا عميقا في بينية الاتحاد وتأثيره في الساحة الدولية ويحدث تغييرا على صورته التي طالما افتخر بها الأوروبيون؛ تلك الصورة الناصعة المبنية على حماية حقوق الإنسان والسعي إلى مساعدة دول العالم الثالث للنهوض من “تخلفها” و”رجعيتها”.
أما ما زاد الطين بلة فهو طلب بريطانيا الخروج من البيت الأوروبي، والذي تأتى لها قبل أيام، لتغادر الاتحاد رسميا بعد سنوات طوال من العضوية والنشاط في كنفه. فهذا الصدع سيؤثر اقتصاديا وسياسيا أيضا على الاتحاد الأوروبي وعلى بريطانيا وربما على دول العالم الأخرى. وعندما أقول إن هذا الانفصال قد أحدث شرخا في البيت الأوروبي، فأنا أعني ما أقول لأن هذا الحدث الذي لم يرغبه أعضاء الاتحاد الآخرين قد يطلق العنان للدول الأخرى لتتحرر منه وليكبر الصعد داخل هذا الاتحاد الذي قد يستحيل ركاما بتوالي الانفصالات، فمن يضمن عدم تقدم أي عضو آخر بطلب الخروج منه في يوم من الأيام، يوم قد يكون قريبا نظرا لما تعيشه البلدان الأوروبية من مشاكل اقتصادية داخلية على غرار فرنسا التي تفاقمت فيها المشاكل الاقتصادية والتي أدت إلى ظهور حركة السترات الصفراء المطالبة بالتغيير. ومن يدري، قد تستجيب الحكومة الفرنسية يوما ما لمطالبهم أو قد تقرر الخروج هي الأخرى من الاتحاد بغية إحداث تغيير اقتصادي متحرر من المعوقات والقيود التي تفرضها قوانين الاتحاد. وفي نفس السياق، يرى مدير معهد الأبحاث “بروجل” Bruegel، غانترام وولف، الباحث في الشأنين الاقتصادي والإدراي الأوروبيين، أن البريكسيت قد تكون له عدة عواقب وخيمة على الجانبين السياسي والاقتصادي، منها “تأجيج المشاعر الشعبوية داخل بلدان أخرى من الاتحاد الأوروبي” تطالب بإعادة النظر في العلاقة بالاتحاد وتزيح عن كاهلها المسؤوليات المنوطة بها داخل البيت الأوروبي مع الحفاظ على نفس الامتيازات الحالية.
في الختام، نظرا لكل هذه المشاكل التي بات الاتحاد الأوروبي يعاني منها، أقول إنه لم يفقد بريقه بعد في مجال التعاون الدولي نظرا للدور الذي لا يزال يضطلع به على الساحة الدولية بعد خروجه من العديد من الأزمات العصيبة التي مر بها، لكن خروج بريطانيا مؤخرا، في اعتقادي، سيكون له ما بعده، فالاتحاد فقد أحد أبرز وأقوى أعضاءه، وهي سابقة من نوعها، فلم يشهد هذا البيت منذ قيامه انفصال أحد أعضاءه عنه. لهذا، قد تكون هذه بداية تراجع قوة هذا الاتحاد وتأثيره الكبير ولا أرى له مستقبلا أحسن من ماضيه. لكن هذا لا يدل أساسا على خطأ في نظريات التعاون الإقليمي التي اعتبرته نموذجا يحتذى، فأحوال السياسة كسنة الحياة، محال أن يبلغ أي كيان أشده ويبقى على هذا الحال دائما تماما كما الإنسان عندما تخر قواه بعد بلوغه أوج قوته، وهو حال الاتحاد في خضم هذه الأزمات.
المراجع
حبيب معلوف، ” أي “نموذج” جديد للاتحاد الأوروبي؟”، آفاق البيئة والتنمية، العدد 99 (2017).
2 Amadeo, K. (2019) Largest economies in the world: why China is the world’s largest economy. The Balance. https://www.thebalance.com/what-is-the-greece-debt-crisis-3305525. Accessed 01/02/20.
3 Arts, K. and Dickson, A. K. (2004) EU development cooperation: from model to symbol. Manchester and New York: Manchester University Press.
4 Amadeo, K. (2019, December 14) Greek debt crisis explained: understand the Greek debt crisis in 5 minutes. The Balance. https://www.thebalance.com/what-is-the-greece-debt-crisis-3305525. Accessed 01/02/20.
5محمد أمين، ” صعود اليمين بأوروبا.. سنوات عجاف بانتظار المهاجرين”، الجزيرة، (27/5/2019). .انتخابات-البرلمان-الأوروربي-صعود-اليمين-المتطرف-المهاجرين-العرب-والمسلمينhttps://www.aljazeera.net/news/politics/2019/5/27//
6 Oltean, P. (2016) Ways of securitizing migration in the European Union as a result of the 2015 refugee crisis: typology of actors, discourses and effects. In M. Alexandrescu (ed.) The Refugee Crisis in the European Union: Between the Fundamental Human Rights and the Efforts Towards Securitization. Cluj-Napoca: CA Publishing: 91-122.
7 Wolff, G. B. (2016) The three dangers of Brexit. Bruegel. https://bruegel.org/2016/05/the-three-dangers-of-brexit/. Accessed 02/02/20.