من ضريبة النائبة إلى ضريبة “كوفيد”: مسارات متقاطعة وأوجه متشابهة
إبراهيم مراكشي أستاذ جامعي-كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة
أصبح الشغل الشاغل لحكومة سعد الدين العثماني، في الآونة الأخيرة، البحث عن موارد إضافية لمواجهة التداعيات الناجمة عن جائحة كوفيد-19، والتخفيف من حدة العجز المالي المتوقع لسنة 2021، خاصة في ظل تراجع الأنشطة الاقتصادية، مما يعني تراجعا في مداخيلها الضريبية.
ليس أمام الحكومة الكثير من المخرجات، لأنها تسير في نفق مظلم نهايته غير بارزة المعالم. الحكومة في بحثها عن الحل نأت بنفسها عن الحلول الصعبة والمعقدة التي تتطلب منها أجرأة لسياسات عمومية تؤدي بها إلى ترشيد الإنفاق العام مثلا، أو إلى حلول تتطلب قرارات سياسية شجاعة كمحاربة التملص الضريبي أو تهريب الأموال نحو الخارج.
نتيجة للظرفية العامة لم يكن أمام الحكومة سوى البحث عن الحلول السهلة والسريعة. فباب الاقتراض الأجنبي استنفذ هذه السنة، وطٌبع المزيد من الأوراق عملية محفوفة المخاطر في ظل تراجع الإنفاق العائلي وتقلص الإنتاج الصناعي. ما الذي تبقى أمام الحكومة؟ لم يبقى أمامها سوى جيب المواطن، وخصوصا الموظفين والأجراء، فهي الكتلة الثابتة التي تعول عليها الحكومة للتخفيف من حدة الأزمة، أما الشركات فتظل ركيزة غير مستقرة نظرا لما تمر به من أزمة خانقة، وما تشهده من تراجع في أرباحها لهذه السنة.
وبالتالي فالخطوة التي أقدمت عليها الحكومة كانت متوقعة، ولكن السؤال العالق مرتبط بعامل التوقيت، لا غير.
ففي مشروع قانون المالية لسنة 2021 تسعى الحكومة لإقرار ضريبة جديدة تحت اسم وازن له وقع إيجابي عند سماعه، “مساهمة اجتماعية للتضامن”، وهي الضريبة التي سنطلق عليها مجازا في هذا المقال ضريبة “كوفيد”، لارتباطها العضوي والوظيفي بالجائحة.
هذه الضريبة الجديدة تندرج ضمن خانة الضرائب التي تُحدث في فترة الأزمات، تظل لصيقة بها، وتنتفي مبرر وجودها بزوال الأزمة ذاتها. ووعيا من الحكومة بذلك فقد حدد فترة سريان نفاذها في سنة واحدة (2021).
إن ضريبة “كوفيد” ليست بالمقتضى الجديد في تاريخ نظامنا الضريبي، فقد سبق وأن بُودر باتخاذ قرارات مشابهة في وضعيات مماثلة. هكذا نجد المغرب، في مطلع ستينيات القرن الماضي، قد خصص عائدات التمبر (أربعة دراهم) التي تفرض على البطاقات الرمادية للسيارات، وذلك في حدود 50 درهما شهريا، لفائدة ضحايا قضية “الزيوت المسمومة” الشهيرة؛ وقبل هذا الحادث الأليم بسنة (1960)، تم فرض ضريبة للتضامن الوطني لفائدة ضحايا زلزال أكادير، وهي الضريبة التي تمت دسترتها لاحقا في الفصل 16 من دستور 1962، إذ جاء منطوقها كالتالي: “على الجميع أن يتحملوا متضامنين التكاليف الناتجة عن الكوارث التي تصيب البلاد”، وهو الفصل الذي تطور في الدساتير اللاحقة قبل أن يستقر في دستور 2011 من خلال الفصل 40 في صيغته التالية: “على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد”. وهذا الفصل ينبغي تذكره جيدا، لأن لنا عَودة إليه.
وقبل هذه الضريبة وتلك، كان للمغرب تجربة شبيهة في عهد السلطان المولى إسماعيل الذي فرض على المغاربة ضريبة “النائبة”، وخصصت لتمويل المرابطين في الثغور المحتلة من أجل تحريرها. وفي هذه النقطة تحديدا تلتقي هذه الضريبة مع ضريبة “المساهمة الاجتماعية للتضامن”. فهذه الأخيرة اقتضتها كذلك ضرورة مواجهة عدو خارجي، وإن كان من نوع آخر، غير مرئي بالعين المجردة. لكن يبقى السؤال المركب في نهاية المطاف هو: ما مضمون هذه الضريبة وما منطوقها؟
من الناحية الإجرائية، تستهدف هذه الضريبة فئة الموظفين والأجراء، التي يعادل أو يزيد دخلهلم الشهري الصافي عن 10.000 درهم، إذ سيتم اقتطاع ما يعادل 1,5٪ من قيمة الدخل. في المقابل، جرى استثناء من يقل دخلهم عن هذه العتبة، وهذه نقطة إيجابية تحسب للحكومة.
لكن، هل الحكومة استهدفت بهذه الضريبة فقط الموظفين والأجراء لأنهم الحلقة الأضعف في المعادلة؟ فمبدأ العدالة الضريبية ومنطوق الفصل 40 من الدستور السالف الذكر يتعارضان مع هذا التوجه -إن صح-، لأنه يقتضي أن يتحمل الجميع التكاليف الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد. فهل مجال تنفيذ هذه الضريبة يستثني حقا الأغنياء ويمنحهم “صكوك الغفران”؟
لا بد وأن نشير إلى أن تطبيق هذه الضريية على الشركات الخاضعة للضريبة على الشركات لا يعني بالضرورة أنها تستهدف أيضا الطبقة الغنية. فمن جهة، لأن الحكومة عند وضعها لهذا المقترح لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى الفئات الثرية، وتعمدت تجنب مصطلح الثروة، ثم إن تعريف هذه الأخيرة أو أصحابها أوسع من مفهوم الشركات، ومن جهة أخرى لأن المشرع استثنى جملة من الشركات من مجال تنفيذ ضريبة “كوفيد”، وهي الشركات التي يعلم الجميع أن أرباحها السنوية معتبرة. الظرف استثنائي، ورغم ذلك جرى استثناء الشركات المعفاة من الضريبة على الشركات بصفة دائمة، والشركات التي تزاول أنشطتها داخل مناطق التسريع الصناعي، وشركات الخدمات التي تستفيد من النظام الجبائي المنصوص عليه لفائدة القطب المالي للدار البيضاء.
في هذا الإطار، التاريخ بعيد نفسه، فقبل أربعة قرون خلت نجد أن ضريبة النائبة قد أُسقطت بدورها على عدد من فرسان جيش عبيد البخاري، الذي كان جيشا نظاميا احترافيا، وكذلك على المقربون من دار المخزن، كالوزراء، وكبار القواد والتجار وعلماء البلاط، وغيرهم… أي نخبة المجتمع وأثريائها في ذلك العصر، في المقابل فرضت على العامة، إذ لم يتم استثناء حتى القبائل التي كانت تشكل الجيش غير النظامي للبلاد، فلم تعفى بدورها من أداء هذه ضريبة، قبائل أولاد مطاع والشبانات وأولاد العزمي وعبدة والشياظمة والمنابهة، إلخ.
نعود مرة أخرى للشركات المعنية بهذه الضريبة لنقول أن احتسابها سيتم على أساس مبلغ الربح الصافي الذي يعتمد لاحتساب الضريبة على الشركات وذلك بنسبة 2,5٪ للشركات التي يتراوح ربحها ما بين 5 إلى 40 مليون درهم، و 3,5٪ بالنسبة للشركات التي يفوق ربحها الصافي 40 مليون درهم.
وهنا نتسائل من هي الشركة التي ستتمكن، في ظل هذه الأزمة، من تحقيق ربح صافي يصل إلى 40 مليون درهم؟ بل من هي الشركة التي ستتمكن من تحقيق أرباح صافية تصل إلى 5 مليون درهم، بالنظر إلى كون 60٪ من الشركات متوقفة مؤقتا عن العمل لحد الآن. ولن ننهي هذه السنة، إلا وقد أعلنت العديد من الشركات عن إفلاسها. حتى في الأيام “المجيدة” تكون الأرقام مرعبة بحق بخصوص الشركات التي تعلن إفلاسها، وبالأحرى خلال هذه الفترة. أما الشركات الناجحة، والتي تحقق أرباحا رغم ظروف الجائحة، فقد استثنتها الحكومة من مجال تطبيق ضريبة “كوفيد”.
لكل هذه العوامل السالقة الذكر، نقول أن الحكومة لا تعول كثيرا على الشركات في تحصيل هذه الضريبة، وقد تكون الحكومة أقحمت الشركات تفاديا لسهام النقد المحتملة التي ستوجه لها في حالة اقتصار هذه الضريبة على الموظفين والأجراء.
في الواقع، تركيز الحكومة على هذه الفئات الأخيرة لأنهم الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، ولأن أجورهم تحت رحمة يد الحكومة وتصرفها.
بخصوص مبدأ تحمل الأعباء الناتجة عن الكوارث الطبيعية النص الدستوري واضح، إذ يؤكد على ضرورة أن يتحمل الجميع بشكل “يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها”، وهذا النص ينبغي أن يؤول لصالح الطرف الضعيف، لا الطرف القوي، أي لصالح الطبقات الفقيرة. لذا لو كانت للحكومة نية صادقة في أن تشمل هذه الضريبة حتى الطبقة الميسورة، لأقرت أيضا الضريبة على الثروة تسري لمدة عام واحد، تماما كما استهدفت جيوب الأجراء والموظفين بضريبة جديدة مؤقتة، وإن كانت قيمتها غير ذي شأن لا تتعدى نصف يوم عمل. نحن نناقش المبدأ في حد ذاته، وهو المساواة في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث.
لقد أكدت الحكومة أن ضريبة “مساهمة اجتماعية للتضامن” هي ضريبة مؤقتة مدة صلاحية نفاذها يمتد على سنة واحدة، وللتاريخ فضريبة النائبة كانت بدورها مؤقتة، إلا أنها انحرفت عن مسارها، وصارت ضريبة دائمة تفرض على من لا يؤدي الخدمة العسكرية، وتدفع عينا أو نقدا. وهنا نتساءل هل من ضمانات لعدم تحول “ضريبة كوفيد” إلى ضريبة دائمة؟ لا نشك في صدق نية الحكومة، إلا أنها لم تقدم توضيحات في هذا الباب. فما أسهل تغيير المسمى بمسمى آخر و “اللعب” في سقف مضمونها، ليتم إدماجها ضمن خانة الضرائب “الدائمة”، علما أن المغرب من بين الدول التي تحظى بوعاء ضريبي كثيف، فما بين ضريبة وضريبة نجد في الوسط ضريبة أخرى!