من مهام الأدب خلقُ الجمال، وإثارةُ الانفعالات التي يكونُ لها وقع الألوان في رسم اللوحات النادرة، والتي تستمد زخارفها المتعددة من معركة الحياة، فترتسم مزهوةً بإبداعها في الفجوة يسراً كما في القسوة عسرا.
في كتاب “ما هو الأدب؟” يتساءل جون بول سارتر ثلاثة أسئلة هي حاسمة في التعريف، خصوصاً في الشق الأدبي المكتوب: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ فأن نكتبَ مثلا: معنى ذلك أن نتصرف بطريقة ما، حين نشير، حين ندل؛ هذا التعريف المكثف يوحي بأن مَهمَّة الكاتب تذكير الآخرين بهم، بموضوع علاقاتهم، فيما بينهم، ومع الأشياء، أي هي عمليةٌ لإزاحة الحجاب، مع اقتراحٍ لعالم جديد يمكنُ اعتباره بوابةً للحرية المفتقدة.
هذه المقدمة الضَّرورية مِنْ شأنها توجيه القراءة الصَّحيحة لبعض الأعمال التي هي في حقيقتها نماذج حية ونادرة، لأساليبَ علاها الغُبار، فلم تتضحْ حقائقها الكامنة من وراءها ما لم يتقدم أحدٌ في شجاعة وينفضَ عنها هذا الذي تراكم وتزاحَمْ.
عشرُ حكايات قصيرة، تقصُّ علينا تفاصيل أيام الإنسان، ضِمن أحواله الأربعة التي حصرتُها من خلال قراءتي لهذا العمل المعتبر؛ حال الانفصام – حال الانطفاء الأخلاقي – حال النكران – حال الاستغراب.
هذه الأحوال تعكسُ الصراع القائم في النفس، والتباساته المتوقعة في المجتمع، تختصرها هذه القصص في نسق متصل، ولغة متخيلة ذكية، تستميل القارئ من خلال رمي بعض التشبيهات العجيبة، والانزياحات الغريبة حقاً، التي توحي بتمكن الكاتب في نسج قصص موجزة في عباراتها، بدلالات غاية في الرسوخ.
قدرة الكاتب على التخييل، تدفعه إلى الخروج من قصته لينظر إليها من عَلُ، كأنه ينظر من خارج الإطار من أجل تحطيمه، وترك الفرصة أمام الشخوص لتتحرك بنفسها، وتجسد ما هو عالق داخل تلابيب وتفاصيل الكاتب، إنه انعكاسٌ لأرواح تتحاور فيما بينهما، وتتلبس قائمة بأدوار استثنائية تعيشُ في الواقع على حافة الشؤم.. والشؤم الذي تجلى في القصة الأولى حجابٌ منتهك، سقط على وجوه الشَّخصيات التي تدافع عن نفسها على غير ما فعلتْ، وترجو نوال شيء لم يحصل تمامه، فيقع الادعاء، ولا يحصل الانمحاء، فيقف الرضيع متصلبا، كاشفاً لجميع السوءات… ليستمر هذا الشؤم ويتجلى قاسياً في آخر قصة التي هي جُماع المجموعة كلها.
القصة الأخيرة حملت عنوانَ الكتاب، وهي إشارة من الكاتب ليستْ بريئة، إنها تحمل في طياتها رسالةً مبطنة، ليسَ لأنها القصة الأطول بالمقارنة مع باقي القصص، إنما لنوعية طبيعتها، فهيسيرة ذاتية لها شبهٌ بالواقع، غير أنها متسترة في الكشف عن نفسها، مخافة أن يسقط عليها ما نفته القصص الأخرى عن شخوصها خصوصاً في الحكايات الثلاثة الأولى: الامتحان الكبير – حين تسقط الدال – المرآة السحرية.
القصة الأخيرة تذكر برواية “مذكرات دجاجة” التي قدم لها طه حسين، لها شبهٌ في الاتصال الذي حصل في نهايتها، والذي كان السببَ في الشُّؤم والمأساة، ليدخل رضا في حالة من الاستغراب عن نفسه، وعن الناس.
ما يشوش على هذه القصص سرعة التخلص منها، فتترك القارئ في حيرة من أمره، محاولاً بث الروح في الشُّخوص التي قطعالكاتب أعناقها بمداده. والحاصل رغم هذا، أن هذا النوع من الانسحاب لا يمكنُ فهمه إلا في سياق الانتهاء من عرض الرسالةالتي اعتقدها الكاتب من خلال قصصه.
يمكن إدراج هذا الكتاب ضمن الأدب الملتزم، الذي يسعى إلى أن يكون واعيا، مستشعراً لنبضات الإنسانية، شاهداً للموضوعات الاجتماعية بالشكل الذي يعكس الحقيقة المرة، محاولا تجاوزها بالعمق اللازم.