من جيل الضباع إلى جيل الفراغ
إبراهيم مراكشي أستاذ جامعي – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة
جيل الضباع الذي كان المرحوم محمد جسوس، عالم الاجتماع، قد تنبأ به يكون اليوم قد تجاوز عتبة الأربعين سنة، وبذلك يكون قد رفع الراية البيضاء! لقد تجاوزنا هذا الجيل، بأشواط عديدة مريرة، نحو جيل آخر هجين،ملامحه لا تبعث على الاطمئنان، ولا يوحي بكونه الجيل الذي سيحمل مشعل التغيير ليخرج البلاد من دائرة التخلف. وهنا مكمن الخطر الذي يحدق بالمغرب.
إنه جيل الفراغ، والذي يضم تحت رايته كل من ازداد في بداية الألفية الجديدة. جيل الفراغ، ما هم سوى أبناء جيل الضباع. اصطلاحا نسميه كذلك لأن معظم أبناء هذا الجيل يعاني من فراغ على مختلف الصعد: فراغ روحي-ديني، فراغ عائلي، فراغ نفسي، فراغ ثقافي، فراغ اجتماعي، فراغ اقتصادي، فراغ سياسي، إلخ.
مقارنة مع جيل الفراغ، كان لجيل الضباع بعض الحسنات. فإذا كان جيل الضباع فُقر ماديا وفكريا، فإنه على الأقل تربى في وسط عائلي محافظ، حيث للأب كلمته العليا واحترامه الواجب المطلق. أما جيل الفراغ فقد جاء في وقت فُقرت فيه الأسرة وخربت بنيتها. هذا الجيل من خصائصه أنه عاش في فراغ عائلي، فتح فيه الابن عينيه وقد فقد فيه الأب لسلطته المعنوية والأخلاقية؛ جيل وإن عاش في كنف الأسرة إلا أن معظم وقته قضاه في العالم الافتراضي. إنه الهروب من الواقع المر الذي يحاصره من كل جانب، والذي كله إقصاء وتهميش.
جيل الفراغ هو عنوان لفشل سياسات الدولة في اخراج جيل الضباع من الفقر، ومن إقرار مجتمع ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية. الفقر في المجتمعات الفقيرة غالبا ما يورث، واليأس والإحباط بدوره.
جيل الفراغ غُرس فيه اليأس والإحباط، فهو يرى المستقبل مظلم، وكل أمله أن يغادر هذه البلاد بلا رجعة. فراغ هذا الجيل، فراغ نفسي كذلك. إنه الجيل الذي عرف الاكتئاب حق المعرفة وهو ما يزال في عنفوان مراهقته.
جيل الفراغ أصبح يهرب من الواقع، يجد في الفراغ الافتراضي ما عجز عن تحقيقه في العالم الواقعي، فتراكم لديه بذلك زمرة من المكبوتات النفسية والجنسية والاجتماعية. هذه المكبوتات التي يعمل على تصريفها، بين الفينة والأخرى، بشكل تصادمي مع المجتمع، لذلك فجرائمه صادمة. إن تصادم جيل الفراغ مع المجتمع لهوأمر محتوم، وهو ما نلمسه بارتفاع في معدل الجريمةبمختلف أصنافها، واكتظاظ في السجون. إن معظم نزلاء هذه الأخيرة ما هم سوى من فئة جيل الفراغ.
ولأنه نشأ في أسرة متماسكة، فقد كان من نصيب جيل الضباع أن حصل على بوصلة أخلاقية متينة، ومعظمأبناءه على قدر كبير من التدين واحترام لمن يفوقهم سنا؛أما جيل الفراغ فعلى النقيض من ذلك تماما، ذلك أنه نتيجة لفراغه العائلي، نجد من خصائصه فراغ روحيكبير ناجم عن عدم تدينه. جيل الضباع كانت له قواعده الصارمة في احترام المجتمع، أما جيل الفراغ فلا احترامولا توقير له للمجتمع.
إن جيل الفراغ له نظرة مغايرة للأخلاق عن جيل الضباع، فكل ما يحقق له مصلحته هو أخلاقي بالضرورة. إنه جيل نفعي، ينصت جيدا عندما يحادثه الآخر، لكنه في نهاية المطاف يعمل ما يريد، دون أي تقدير لعواقب تصرفاته. أوليس هو الجيل الذي بات ينظر إلى الغش في الامتحانات كحق مشروع؟ ويحتج حينما يحرم منه؟ بل وأبدع وابتكر طرقا جديدة في الغش لم تكن لتخطر على بال جيل الضباع.
جيل الفراغ، على عكس جيل الضباع، رفع راية الاستسلام مبكرا، فهو الجيل الذي أصبح يرتاح للفشل ويخاف من النجاح؛ يكره الناجحين ولا يصاحب المتفوقين، بل يحقد كثيرا إن تمكن أحد من أبناء جيله من النجاح. الذين يشتغلون بمهنة التعليم يدركون هذا الأمر جيدا، وإذ يدركون كم المعاناة التي يعانيها التلميذ المتفوق داخل القسم مع زمرة من التلاميذ الفشلة.
جيل الضباع كان محظوظا إلى حد ما، لأنه درس في مدرسة عمومية وطنية واحدة، رغم علاتها، كان غنيه وفقيره يدرس جنبا إلى جنب في نفس القسم، في تكافئ نسبي للفرص. أما جيل الفراغ فقد اختل ميزان تكافئ الفرص بين من يدرس في ظروف جيدة بالمدارس الخصوصية، وبين من يتم حشوهم كالسردين داخل أقسام تفوق بكثير طاقتها الاستيعابية. جيل الفراغ وجد من نصيبه مدرسة عمومية في أسوء مراحلها؛ مدرسة عمومية أعلنت عن إفلاسها بشكل غير رسمي، رغم تعنت الدولة في الاعتراف بهذه الحقيقة المرة، إلا أن أفعالها وتصرفاتها تدلان على ذلك.
صحيح أن جيل الضباع عاش في فترة القهر السياسي، إلا أنه محظوظ من يتمكن من أبناءه الوصول إلى الجامعة ليجد واحة من الديمقراطية ومن حرية الرأي والتفكير؛ أما جيل الفراغ فقد جاء في وقت هزمت فيه الأحزاب السياسية وميعت السياسة، وأصبع القمع يمارس بالقانون، ومن يصل إلى الجامعة يجدها قد فقدت القدوة وانتهكت حرمتها بتفشي الفساد في محيطها.
جيل الضباع مورس عليه عملية تجهيل قسرية، إلا أن فئة منه قاومت على قدر استطاعتها، فكانت تبحث في وقت لم يكن فيه أنترنيت، وتقرأ وتتابع في وقت كانت للصحافة الحرة كلمتها، أما بالنسبة لجيل الفراغ فكانت هذه العملية أخطر ونتائجها أفظع. ولعل أكبر جريمة أنكلف جيل الضباع، بهمومه وأسقامه، تدريس جيل الفراغ، فكيف ستكون النتيجة؟
لقد أنتج جيل مستواه التعليمي، أقل ما يقال عنه أنه فارغ، جيل ذاكرته كذاكرة السمك، جل أبناءه غير قادرينعن تركيب جملتين مفيدتين مترابطتين أو على التركيز لدقيقتين متواصلتين.
من كان تعليمه بهذا المستوى، لا بد وأن يكون فراغه سياسي أيضا. إن جيل الضباع لم يكن في معظمه جاهلا بأمور السياسية، لكنه حينما اختار العزوف فذلك تعبير منه عن رفضه للظروف وللشروط التي تمارس وفقهااللعبة السياسية؛ أما جيل الفراغ، فقد دفع قسرا لكي يكون جاهلا بأمور السياسة، كارها لها، نافرا منها، حتى لا تكون مطالبه بنفس حدة مطالب جيل الضباع.
جيل الفراغ أفرغت دائرته من السياسة، فأصبح يعيش في فراغ سياسي، دون أن يعني ذلك أنه غير متمردوغير ساخط عن الوضع، بل هو في عمومه عنيف في ردود أفعاله، لكن ليس على السلطة السياسية القائمة، وإنما على محيطه القريب، فينفجر في وجه والديه، أو يتنمرعلى أبناء حيه... إنه الجيل الذي يحمل والديه مسؤولية فشله أولا، وهذا ما لم يجرأ عليه حتى أبناء جيل الضباع،قبل أن يوجه سهام لومه إلى المجتمع في ذلك.
جيل الضباع وجد في موسيقى الراي متنفسه الذي يُعبر عن مكنوناته، أما جيل الفراغ فقد اختار السلاح الرمزي، اختار منذ البداية الكلاشينكوف، أن “يكلاشي” المجتمع بألفاظ بذيئة وجد نابية. جيل الضباع كانت جلألعابه جماعية، بسيطة ومفيدة، فمثلا أقصى ما قديقوم به في احتفالات عاشوراء رشه للمارين بالماء، أما جيل الفراغ فيحتفل بتفجير قنينات الغاز، تماما كما يفجر المفرقعات النارية الخطيرة أمام المارة.
أفرغ جيل الفراغ روحيا وعائليا واجتماعيا واقتصاديا، إلخ. ما يتعرض له اليوم هو أسوء ما تعرض له جيل الضباع بالأمس. لجيل الضباع ترك له باب الأمل مواربا، أما في جيل الفراغ فقد أوصد في وجهه تماما. ما أخطر حينما يفقد الشباب الأمل! لكن رغم ذلك يظل الأمل في التغيير والإصلاح ممكن شريطة ألا يستسلم جيل الفراغ ويسلم بالأمر الواقع رغم كثرة المحبطات التي تحيط به. لذلك على أبناء هذا الجيل ألا يعتبر مصطلح “جيل الفراغ” دعوة لكي يطبع مع الفشل بقدر ما هي دعوة صريحة ليستيقظ من غفلته قبل فوات الأوان، وأن ينتبهلأخطائه وما يحيك ضده، وإلا فأي مشعل سيسلم جيل الفراغ للجيل الذي يليه؟ وأي مستقبل ينتظره المغرب؟