ماذا لو استمرت الجائحة لسنة أخرى؟
إبراهيم مراكشي أستاذ جامعي- كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة
تفصلنا بضعة أشهر على توديع سنة 2020، وهي سنة استثنائية بكل المقاييس، مرت ثقيلة على قلوب المواطنين ومكلفة على جيوبهم، أتعبتهم وأنهكتهم نفسيا وماديا. وظني أن الجميع على استعداد لكي يقول لها، وعلى نغمة واحدة بالطريقة المصرية: “بالسلامة والقلب دعاليك”، إن هي غادرتا الآن.
نتمنى أن لن تغادرنا سنة 2020 إلا وقد أَخذت معها بلا رجعة فيروس كورونا المستجد.
الحقيقة، أن سنة 2020 لن يتأسف عليها أحد، ولن يذهب أحد في ركب جنازتها، اللهم إلا من بعض أصحاب بعض المصالح المرتبطة بالمستلزمات الطبية على شاكلة: الصيادلة وبائعي المواد المطهرة والمعقمة، وأرباب شركات الأدوية، وغيرهم ممن نالهم الحظ السعيد من هذه الجائحة، وحققوا من ورائها أرباحا معتبرة.
ستذهب سنة 2020 وستأتي سنة 2021، لكن هل ستكون بشرى خير على المغاربة؟ ماذا لو أصرت جائحة كوفيد-19 على البقاء معنا وعدم مبارحة جوارنا وحوارينا؟ بمعنى آخر، ماذا لو طالت فترة الجائحة لسنة أخرى إضافية؟ إنه سؤال مخيف، يخفي وراءه سيناريوهات مرعبة!
بعيدا عن العواطف والكلام المنمق، أو عن القذف بتهم جاهزة بالتيئيس أو بالتخوين، لنتحدث بواقعية، بكثير من الواقعية. أعتقد أن هذا السؤال شرعي، ينبغي طرحه والتفكير فيه بجدية قصد وضع البدائل المحتملة، والحلول الممكنة إن تحقق هذا الاحتمال. فهل وضعت الحكومة هذا الاحتمال في حسابات أجندتها الخاصة؟ وهل شكلت خلية للتفكير في هذا الأمر قصد وضع تصور أو تصورات عملية عن كيفية التعامل مع هكذا وضع؟
العديد من زعماء الأحزاب تسيل لعابهم لبلوغ منصب رئيس الحكومة، وهم على استعداد لتقديم كافة التنازلات في سبيل بلوغ ذلك، لكن إن طُلب منهم ذلك في هذه الظرفية أعتقد سيعتذر الجميع.
ما نريد قوله من خلال هذا المثال أن لا أحدا من منافسي السيد سعد الدين العثماني يحسده على المنصب وعلى ما هو فيه حاليا. لا غبار عليه أن الرجل غير محظوظ بكل المقاييس، لأن الوضعية التي يوجد فيها المغرب جد معقدة؛ فالبلاد تمر بأحرج فترة في تاريخها الاقتصادي، وإمكانياتها محدودة، والحكومة مطلوب منها أن تنفق بما وعلى ما يفوق طاقاتها، كمثل رجل في جيبه مائة درهم، لكنه يُجبر على أن تفوق نفقاته مبلغ الخمس مائة درهم. من أين سيأتي بالفارق؟ هذا هو الشغل الشاغل الرئيسي للحكومة ولرئيسها قبل الجائحة وبعدها؛ لكن بدل من أن تلجأ إلى ترشيد الإنفاق العمومي ومحاربة اقتصاد الريع، اختارت الحكومة نهج طريق آخر، كسابقاتها، وهو طرق باب الاقتراض من صندوق النقد الدولي. هكذا حصلت الحكومة، في مطلع شهر أبريل من هذه السنة على قرض بقيمة 3 ملايير دولار، قيل عنه لمواجهة تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد. لم تكتفي بهذا، بل هذا بل حصلت على “ميني” قرض آخر من الاتحاد الأوروبي والبالغ قيمته 100 مليون أورو، والذي خصص لتمويل “الأنشطة الصحية”، وقرض آخر بقيمة 127 مليون دولار أمريكي من صندوق النقد العربي، خصص هو الآخر لمواجهة تداعيات الأزمة الناجمة عن الفيروس. شهية الحكومة مفتوحة على الاقتراض!
خروج المغرب من هذه الأزمة رهين ببقاء هذا الفيروس من عدمه. في هذا الإطار، لدينا أربع احتمالات، لا خامس لهم:
-إما أنه سيأتي يوم ويختفي الفيروس فجأة، تماما كما حدث من قبل مع فيروس إيبولا، وفي هذه الحالة ستسجل الشركات التي تعد اللقاحات خسائر فادحة؛
-إما أن الفيروس سيظل نشيطا، وسيكتشف اللقائح قبل نهاية سنة 2020؛
-إما أن الفيروس سيظل نشيطا، وسيكتشف اللقاح في السنة الموالية، أي 2021، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات تتطلب من المغرب الاستمرار في حالة الطوارئ الصحية تحسبا لتفشي الوباء، وذلك في انتظار أن يتم تلقيح المواطنين؛
-إما أن الفيروس سيظل نشيطا في ظل غياب التوصل إلى لقاح فعال سنة 2021.
وهذا الاحتمال الأخير هو الأسوء من بين الاحتمالات الأربع، لكنه بعيد التحقق.
في الاحتمال الثاني والثالث سيتطلب تصريف اللقاح وتوزيعه على الصعيد الدولي إلى حين أن يصل للمغرب الكثير من الوقت، لكون هذه العملية معقدة ولها مستويات متداخلة. الشيء الذي يعني أن على المغاربة التعايش مع هذا الفيروس لسنة أخرى، مع ما يترتب على ذلك من احتمال خطر انتشاره.
في كل الأحوال، سواء تم التوصل إلى اللقاح من عدمه في متم هذه السنة أو في السنة الموالية، فإن فيروس كورونا المستجد، وتداعياته، سيظلان معنا لسنة أخرى. وبالتالي، ما طرحناه في مستهل هذا المقال، لم يعد مجرد احتمال بعيد المنال، بل ينبغي التعاطي معه كمعطى واقعي.
لكي نتوقع كيف سيدشن المغرب سنته المقبلة، يتعين أن نعرف كيف سيختم هذه السنة. بخصوص هذه النقطة، الأمور جد واضحة انطلاقا من المؤشرات، والمعطيات الرسمية، المعلنة عنها من طرف المندوبية السامية للتخطيط. هذه الأخيرة وقع لها تجاذبات في بداية الجائحة تجاذبات مع الحكومة حول الجدوى من التصريح بالمعطيات حول هذا الموضوع ومدى تأثير ذلك على ثقة المقاولة والمواطن في الاقتصاد على حد سواء.
رسميا معدل البطالة التي سجله المغرب نهاية سنة 2019، والذي بلغ 9,1٪، ارتفع عند متم شهر ماي لهذه السنة إلى 10,5٪، ويتوقع عند نهاية سنة 2020 أن يستقر في حدود 14,8٪. فإذا كان صندوق النقد الدولي يتوقع ما بين 88 و115 مليون شخص في العالم سينزلق نحو الفقر المدقع، كم سيكون نصيب المغرب من هذه الكعكة؟ انسجاما مع ما سبق، تؤكد المندوبية السامية للتخطيط أن نسبة انتشار الفقر قد تصل هذه السنة إلى 6,6٪، الشيء الذي يهدد مليون شخص إضافي بشبح السقوط في مستنقع الفقر.
علاوة على ما سبق ذكره، سيختم المغرب سنة 2020 بمعدل نمو سلبي سيصل إلى ناقص 1,8-٪، وضياع ما يقارب 3,8 نقطة من نسبة نمو الناتج الداخلي.
إن استمر الوضع على هذا المنوال، فإن المغرب سيختم سنته الاقتصادية و57٪ من المقاولات قد توقفت عن النشاط إما بشكل مؤقت أو نهائي.
سنتوقف عند هذا القدر من المعطيات، لا داعي للاسترسال مادام شرح الواضحات من المفضحات كما يقال. إنها أرقام مقلقة، ومن الواضح أن المغرب سيدشن سنة 2021 بوضعية اقتصادية جد صعبة، ستعاني خلالها كثيرا الطبقة الوسطى، أو ما تبقى منها بعد تقلصها بسبب الجائحة، خصوصا تلك التي تشتغل في القطاع الخاص، وستعاني أيضا الطبقة الفقيرة بشكل أكثر حدة. هذه الأخيرة يتوقع أن تتوسع قاعدتها نتيجة انزلاق شريحة واسعة من الطبقة الوسطى نحو عتبة الفقر. فما يقارب 35٪ من الأسر ستجد نفسها نهاية سنة 2020 بلا دخلبسبب الجائحة، و14٪ منها لن تتمكن من الصمود سوى بالاقتراض.
بهذا الاقتصاد المتداعي، هل بمقدور المغرب، شعبا ومؤسسات، أن يصمد لسنة أخرى؟ إلى متى؟ وبأي ثمن؟ ثم ما هي الاحتمالات التي يتعين على المغرب أن يستعد لها؟
في حالة تحقق هذا الاحتمال، وهو أمر وارد التحقق بشكل قوي، هل وضعت الحكومة خطة بديلة؟ أم أن مقاربتها للملف ستتم وفق مقولة “في يد الله”، التي يستعملها المغاربة حينما يسلم أحد أمره في استسلام، ويترك تصريف أموره للحكمة الربانية.
هناك مجموعة من المسارات أمام الحكومة ينبغي عليها أن تعتمدها. فالوقت مناسب لكي تعود الحكومة لتبني سياسة المخططات، قصد اخضاع الاقتصاد لتوجهات جوهرية تجنبه الوقوع في صدمات حادة بخصوص قطاعات أساسية؛ كما ينبغي أيضا توجيه المالية العامة والسياسة النقدية للبلد في اتجاه مساعدة الأسر المتضررة ودعم المقاولات، من خلال دعم الأجور وتخفيض الضرائب أو إلغائها مؤقتا، وذلك بغية الحفاظ على استقرار في العرض، وتفادي حصول هبوط حاد في الطلب. فالصين مثلا ألغت مؤقتا مساهمات المقاولات في الضمان الاجتماعي؛ وزادت من منح الإعانات عن البطالة، وخففت من شروط الأهلية للاستفادة منها؛ وزادت من فترة الإجازات المرضية المسموح بها لتفادي الخوف من فقدان الوظائف خلال الوباء، إلخ. وهذه كوريا الجنوبية تدعم أجور صغار التجار، وترفع من قيمة إعانات الرعاية المنزلية والإعانات المخصصة للباحثين عن العمل، إلخ. جميع الاقتصاديات القوية ذهبت في هذا الاتجاه. لكن ما الذي بيد الحكومة أن تقدمه للمغرب؟
البدائل المتاحة محدودة، وجميعها تصطدم بإشكالية التمويل العمومي. منذ الآن، يبدو أن الطريق الذي ستسير فيه الحكومة سنة 2021 سالكا ومعبدا، وهو طرق باب الاقتراض مرة أخرى بطلب 4 ملايير دولار أمريكي، “باش دور الحركة”! لكن بأي ثمن؟ أي ما هي التكلفة التي ينبغي أن يتحملها المغاربة؟ وإلى أي مدى؟ أي هل يمكن أن نستمر في الاقتراض إلى ما لا نهاية؟
المؤلم أن أي حل آخر في الأفق دون الاقتراض سيكون وقع تأثيره محدودا، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تركيبة الحكومة الهشة، وعدم اسقلاليتها وارتباط بعض أعضائها بمصالح لوبيات اقتصادية.
ليس بيد الحكومة في السنة المقبلة سوى أن تسلك درب الاقتراض، لأنها تفتقر للشجاعة لاتخاد قرارات استراتيجية قد تتعارض مع مصالح الأقلية المتحكمة بالمغرب.
إن النفق الذي دخل فيه المغرب مظلم، والخطر كل الخطر أننا تجاوزنا نقطة اللاعودة.